الأحد، 19 يوليو 2020

قصة مريم ....... بقلم / إبتسام عبد الرحمن الخميري Ibtissem Khemiri




مـــريـــم

ظلّ الحلم يراودها و لا يهدأ... منذ الأزل تعانقه و لا تهدأ. ظلّ بأعماقها عقدا من الزّمن و لم يغادرها، استكان قليلا. هدأ و ما برحها. ها هو يصرخ و يعلو صداه.. حلم آلاف السّنين ظلّ يضاجع الألم.. يضاجع "مريم" و ما غادرها.. أنّى له و هما صورتان لذات واحدة: هي الحلم و الحلم مريم.
ذات مساء أطردت عنها أوجاع و آلام لا متناهية، تأبّطت أوراقها. تحت وقع حبّات الرّذاذ سارت غير عابئة بما حولها: "سأعلو... سأعلو.."
ذات مساء و النّوء ضارية، سبّحت الأطيار لملكوت السّماء فانتفض الصّدى بداخلها مزعزعا و استقام أمامها قرارا... وحده النّداء سيكون مرفأ ترتاح عنده..
نظرت للمرآة و غمغمت بابتسام:
"بعض الخطوط لكن غير مهمّ، بعض البياض لكن غير مهمّ".
وضعت بعض المساحيق فوق وجهها و تعطّرت ثمّ خرجت.
-مريم عليكِ المضيّ في طريق أفراحك بثبات لا تيأسي.
-نعم أبي، سأكون وهج الفرح كما تريدني.
-لا عزيزتي، بل كما تريدين أنتِ. أريد أن أراكِ تبتسمين حدّ الشّبق و ترسمين حدّ الدّهشة
و تغنّين حدّ الفتنة.
أنّبت نفسها كثيرا... كيف أمكنها الابتعاد عن حلمها الأوحد؟؟ عن فرحها منذ طفولتها؟ كيف تسربلت مع الأوجاع و الوحدة لعقود و لمْ تنطلق؟ لمْ ترفض؟ لمْ تتحرّر؟؟ لقد كانت بسمة الأمل الوليد تعانق أوراقها و تمضي في مسارات تعشقها حدّ الهوس... كانت تسافر أينما يخطر ببالها.. كم تعشق السّفر؟ و هي تجوب الجبال و الوهاد... يأتيها صوت مترعا بهجة و أملا محمّلا أجمل الذّكريات:
-أنت رائعة، مختلفة، ما أحلاكِ..
و يتعالى التّصفيق و الهتاف فتطير شبقا و تسكنها عظمة لا توصف و لا تتوقّف...
مريم ابنة البحر الهادئ الثّائر تراها تارة هادئة و تارة ثائرة مثله تماما.. إرهاصات الزّمن الآفل تربكها... عواء الثّكالى و نواح اليتامى ممتزجا بفرقعات القنابل تدميها فتعوي كذئب جريح أو كحمامة مكسورة الجناح... لكنّها تواصل بحثا عن غيمة بيضاء تركبها صهوة بلا جواد و بلا لجام... كلّ وطن من الأوطان هو وطنها و كلّ الأزمنة زمنها... تبقى تسير مكنوزة عزما و إصرارا... يكفي فؤادها عشرا كان ملجّما و ما نبس بحرف و ذلك الصّوت الجارح المدمي لا يسكت و لا يفوّت فرصة حرق مهجتها:
-أنتِ لا شيء، لن تكوني شيئا، ما تعيشينه وهمٌ، تأمّلي الواقع، أنت مجرّد امرأة خُلقت للمطبخ و الأطفال و كفى.. لن تكوني شيئا...
ظلّ الصّوت يطوّقها يكبّلها طيلة عشر.. تزمّ الحلم بين جنباتها و تسكت. هو لم و لن و لا يموت. تتساءل:
"أَ حقّا هي لا شيء؟؟ فما معنى لتلك الشّهائد المعلّقة بمكتبها؟ ما معنى للسّنوات الّتي قضّتها من عمرها و شبابها و هي تنهل من العلم و لا تكفّ؟؟ و أيّ معنى لذلك التّصفيق الّذي كان يعمّ كلّ الأمكنة و هي تعتلي منصّة لتقدّم محاضرة أو لتدلي بشهادتها في موضوع ما؟؟؟..."
تزمّ الحلم بين جنباتها كما المعتاد و تسكت. لا تجد ما تقول لذاتها. لا تجد كيف تجيب الذّات الحالمة فيها على الدّوام؟؟؟ كيف تروّضها لتهدأ؟ صرخت أغوارها: أنّى لها كلّ هذا الصّبر طيلة سنوات؟؟ لأجل ماذا كانت تسكت؟ لا تجد إجابة واضحة سوى القنوط اللاّ متناهي الّذي لا يفارقها.. فقط تأنيب الضّمير... لقد قست كثيرا على ذاتها الحالمة... لقد أساءت طويلا لحلم والدها الّذي ما انفكّ يسكنها حتّى بعد رحيله و يصرخ فيها كلّما أسدل اللّيل ستاره:
"لا تنسي حبيبتي، أريدك أن تكوني.. أريدك أن تكوني.."
زمّت بين جنباتها حزنا و دمعة حرّى. همست من جديد: "غير مهمّ، سأسير من جديد في نفس الطّريق. سأبعثر أزمنتي و أنفض الماضي و أمضي كأنّ شيئا لم يكن، كأنّ الشّمس لم تحجبها غيوم.."
أخيرا، بعد لأي، بلغت مكان الاجتماع. سكنتها الأسئلة مرّة أخرى:
"تراهم يذكروني بعد كلّ هذه السّنوات؟؟ غير مهمّ، سأذكّرهم من كنت، لا، بل من أكون. ترى من سأجد من الأصدقاء؟ ترى؟ ترى ؟".
أخيرا، بلغت المكان الفخم الرّاقي، بعد غيبة عشر أو تزيد... حال ولوجها علا التّصفيق و تصّاعد يعانق حلمها. فرحها الطّفوليّ. تواصل التّصفيق مع الأصوات الهاتفة:
-مرحبا دكتورة، اشتقنا إليك. اشتقنا إليك.
رفرفت أغوارها فرحا. ألقا. أملا لا متناهيّا. ابتسمت معلنة:"اشتقت لي أكثر..."
بقلم إبتسام عبد الرحمن الخميري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فن البوستات كمال العطيوى