الجمعة، 16 مارس 2018

زواج على ورق ... قصة للأديبة سحر الصيدلي

زوج على ورق :*بقلم سحر الصيدلي 
****************************** 
عرفها عن طريق الشاشة الوهمية السوداء ، وميّز حروفها الأنيقة كما يميز صانع المجوهرات قطع الذهب عن التقليد ، وجدها هادئة رصينة يغلب عليها طابع الجدية والوقار ؛ فقرر أن يقتحم حياتها ؛ لأنها الإنسانة التي يحلم بها منذ شبابه ؛ فأشعل سيجارة. 
واستند إلى كرسيه ، وبدأ يرتشف قهوته التي ينبعث معها دخان سيجارته ؛ فيتكاثف الدخان إلى طبقات وتموجات بين الأبيض والرمادي ، معها طرد شبح زوجته وأولاده إلا شبحها الذي بات مرسوما في قلبه ينبض باسمها . 
وهنا سمح لشيطان خياله أن يقرر التعرف على هدى التي أشعلت نار تفكيره وغرائزه المكبوتة ، وبدأ معها التعارف ببعض الكلمات التي تعبّر عن إعجابه بشعرها وحروفها وكلماتها وهو الشاعر المعروف لدى الجميع ، فرحبت به هدى وبدؤوا معا أطراف الحديث ، وكل يوم يزداد حديثهم عبارة حتى تعانقت روحاهما معا ، وازداد الهيام ، وبدأ الشوق يتسلل إلى قلبيها ..
وعند المساء يطمئن عمر إلى نوم عائلته ، ويسارع إلى جهازه ؛ ليلتقي بحلم عمره ، ويدون لها كلمات تسحر الألباب ، وتلبّي رغبات القلب وعلى إيقاعها تتراقص روحاهما ؛ طربا .
كان عمر متعطشا للقائها ، والتعرف عليها عن قرب ، إلا أن بعد المسافة بينهم كان يحول دون ذلك ، فقد زاد هيامه بها وهو صاحب القلب المتلهف لرحيق الحب بعد أن زوّجته والدته - رحمها الله - زواجا تقليديّا لم يسكن قلبه ولا ضلوعه ، ولم يشعر بسعادة معه ، لكنه استكان لعجلة الزمن متحملا أعباءه الثقيلة ؛ لأنه أثمر عن أولاد باتوا كل حياته ، وبدأ يداوي وحدته بكتابة الشعر الرومانسي ، والآن حبه لهدى دغدغ مشاعره ، وأعاد إليه شبابه الذي افتقده من زمن ، وباتت الابتسامة تعلو شفاهه ، والسعادة تأخذ ركنا مهمّا في قلبه ، وكل يوم يزداد الشوق أكثر والحنين للقاء يكبر ، حتى جاء اليوم الموعود ، ودعي لندوة شعرية في بلد الحبيبة ؛ فصفقت الأكف فرحاً ، وارتوت الشرايين ؛ أملا ، وتسارعت دقات القلب ابتهاجا بأنه سيلتقي بمحبوبته في هذه الندوة ، وهي الشاعرة المتميزة بالحرف والكلمة ، وجمرات الشوق تسبقه ، ودقات نبضه لا تهدأ .
كان لقاءاً مميزا تشابكت فيه الأيدي ، وتعانقت فيه العيون ، وسرى دفء المشاعر في عناق خيالي ، وسرقهما الزمن من بين الحضور بنظراتهما الملتهبة التي عبروا عنها بشعرهم المفروش بأرق الكلمات ، وكانت نظراتهم إلى الساعة لا تنتهي ، حتى أعلن مدير الندوة عن شكره لكل الحضور ركب سيارته الفارغة ، وهي بجانبه تمطره حبا وشوقا لهذه اللحظة التي انتظرتها من زمن ، ثم دعته إلى العشاء في بيتها ، وهي الوحيدة فيه بعد طلاقها من زوجها ، وأقنعته أنها لا تسهر في أماكن عامة خوفا من كلام الناس ، وهي صاحبة السمعة الذهبية ..
تردّد عمر قليلا ؛ خوفا من إزعاجها ، وخوفا من مشاعره التي باتت بأعلى القمم ، لكنها أصرّت ؛ فاستكان لطلبها ، وبعد العشاء أحسّ بتعب ووهن وارتخاء في جسمه ؛ فطلب منها أن تستدعي له سيارة أجرة تنقله للفندق ؛ لأنه متعب وغير قادر على القيادة ، لكن هدى اعترضت على كلماته بأنها خائفة عليه ، ولن تتركه - وهو متعب - لذا أصرّت عليه أن ينام في غرفتها ، وهي ستنام في الصالة ، وبهذا تطمئن عليه ، وترعاه ؛ فوافق عمر مرغما ؛ لأنه فعلا أحسّ بتعب مفاجئ ، وبدأت هدى كل ساعة تطمئن عليه ، وتجلس بجانبه ، وتعطيه دواء ؛ يهدئ حالته حتى بزوغ الفجر ، ودون أن تدري نامت بالقرب منه ؛ فاستيقظ عمر ؛ ليجد ملاكه بقربه بجمالها الساحر وعطفها الذي أسر قلبه ، ودون أن يدري احتضنها بكل قوته ، ووجدوا أنفسهم بالصباح عراة إلا من حقيقة واحدة أن ما حصل كان رغما عنهما ، والحب أقوي منهما ، 
تسلّلت هدى إلى الصالة ، ودموعها تسابقها ، وتعنّف نفسها بأغلظ الكلمات ، وهي البنت التي يفتخر بأخلاقها كل الناس ..
ففكر عمر مليّا ، ثم اقترح عليها زواجا غير معلن ؛ خوفا على أسرته ؛ ليكون لقاؤهم شرعيا ، فسكنت نفسها ، وارتاح بالها ، ووافقت على الفور ، وتم لهما ما أرادا على يد مأذون الحي ، وبعد يومين معا عاشا خلالها أروع قصة حب كتبها لهم القدر ، اضطر عمر الرجوع لبلده وأسرته على أمل زيارتها قريبا ، وكان كل مساء يشغل جهازه ، ويلتقي هدى بأرق العبارات ، وأجمل الكلمات الغزلية ، ويطلقون لأنفسهم العنان دون ضوابط تردعهم ما داموا أزواجا ، وكأنهم طيور تحلق في الفضاء ، وأجساد يسكنها سحابات الشوق ، ومشاعر لا تعرف غير الآهات ، واستمرت حياتهم هكذا ،
وبعد عدة أشهر ؛ فاجأته زوجته يوما أنها تعرف بأنه يخونها مع امرأة من خلال الشاشة ، وأنّ فعلته شنيعة لن يرضى عنها الله ؛ 
لذلك ستترك المنزل وتطلب الطلاق ، وستفضح سرّه أمام الأهل والخلان ، ولن تعطيه أولاده ؛ لأنه إنسان غير مؤتمن عليهم ، فاضطر عمر هنا أن يخبر زوجته الحقيقة ، وأنّ من يكلمها هي زوجته الثانية ، وهي علاقة شرعية ترضي الله عزّ وجلّ
فجنّ جنون الزوجة ؛ وطلبت الطلاق منه فورا أو طلاق هدى ، وخيرته بينها وبين أولادها أو زوجته الثانية ، ولم تكتف بذلك ، بل أسرعت إلى الفيس لتكتب اسم هدى ورابط صفحتها ، وتدعي أنّ هذه المرأة بلا أخلاق ، .... 
هنا شعرت هدى بغصة الخيانة من زوجها ، وهي التي أحبته أكثر من نفسها ، فلم يدافع عنها ، أو يأخذ حقها من زوجته التي اتهمتها زورا ، وأساءت إلى سمعتها دون وجه حق ، وهو مكتوف الأيدي نائم الضمير خائفا مذعورا من الجميع يتستر وراء الفضيلة ، وهي وحدها تواجه المصير ، وتبرر للجميع بأنّه زوجها ، لكن الأهل نبذوها ، والأصدقاء ابتعدوا عنها ؛ فقررت أخيرا أن تبرز على الشاشة قسيمة الزواج ، وكتبت تحتها ( ربما هذه آخر مرة أكتب لكم فيها ؛ لأنني بعدها سأكون بجوار ربي ، وأرجو منكم أن تكتبوا على قبري : لا تتركوا العنان لمشاعركم ؛ لأنها بلاء لقلوبكم ، وستتساقط كالمطر على سمعتكم مع رجال كزوجي عمر ...
.....................................
للأديبة الشاعرة / سحر الصيدلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فن البوستات كمال العطيوى