الجحود فنون :*بقلم وألوان :*خالد سليمان
***************************
موقف ذبح قلبي ، بل طعنه ألف طعنة ، ويبدو أنّ الحزن قد غلّف مواقفي الأخيرة ، فللحزن ألوان وأزياء وعطور ،
ما أصعب دمعة الأب !
وما أقسى قلب الابن حين يتباهى بطعناته لقلب الأبّ !
ماذا جرى للقلوب ؟
زرت إحدى الصيدليات لأصرف دواء ، بينما كان الطبيب مشغولا بقراءة الآثار الجانبيّة لأحد الأدوية ، دخل شاب دون أن يلقي تحية الإسلام يسأل الطبيب صرف وصفة طبيّة ، فاقترب منه الطبيب ؛ لأخذ الوصفة الطبيّة ، وساد صمت بارد على المكان ، قطعه دخول قلب بشوش أعرفه من خلال المسجد ، وألقى تحية الإسلام مسرورا ، تسكن وجهه ابتسامة متألّقة ، ظننته لأول وهلة يرحّب بي ، فاقتربت منه ، ولكنه لم يكن يقصدني ، بل يقصد ذلك الداخل الصامت ذلك الشاب الأخير ؛ فقابله الشاب بملامح بلاستيكية صخريّة جامدة وأيد ميّتة ؛ جعلتني أستشعر سمك أسفلت الجفاء والقسوة التي تغلّف قلب هذا الشاب وملامحه وأصابعه ، بينما وجه هذا الأب بدر متألّق مبتهج ، وهو يسلّم عليه ، والشاب لم يلفظ إلا بقوله : أهلا ، أنت كويس ، بينما الأب واجهه بسيل من الأسئلة : أهلا مازن ، وحشتني وحشتوني كلكم ، كده يا مازن خمسة أعياد ولا أراكم ، والشاب في عزلة كاملة يسأل الطبيب : كم ثمن الدواء ؟ تفضل ، السلام عليكم ،
قالها وحرف الميم في نهاية خطواته في آخر الصيدليّة ، وخرج الأب بابتسامة باهتة ، كما لو كانت ملامحه تحمل اعتذارا لكلّ الحاضرين
وقفت أحلل الموقف ؛ فلم أفهم سوى عطف واهتمام يقابله جحود وتصخّر ، ولكن ما التفاصيل ؟ لا أدري ، وقطع تفكيري حضور الطبيب ، فقمت بدفع اللازم ، وخرجت منطلقا ؛ لأرى في زاوية المبنى هذا الأب واقفا ، فلم أهتمّ ، ولكني دققت النظر بقوة ؛ لأجده منكفئا على كتف الجدار ، فانطلقت نحوه لأستكشف الموقف ، فسمعته يبكي ؛ فاقتربت أكثر ، وحين استشعر قربي جفّف دموعه ، ورسم ابتسامة مصطنعة سرعان ما انهارت ككومة رمل أمام موجة حزن معجونة بالألم ، وربتّ على كتفيه مرات ، وهو قد انفجر في نوبة حزن ودموع وألم ، ولأوّل مرّة أراه باكيا كان وسيما حتى في حزنه ، وواصلت تهدئتي له ؛ حتى استطاع أن يتماسك وسألته : ما بك خير - إن شاء الله - عهدتك في المسجد أنيقا مبتسما حتى في وجوه الأطفال ، فما بك ؟ ، فقال مبتسما : الحمد لله ، خير إن شاء الله ، فقلت : هل أقدّم لك أيّ خدمة أو مساعدة ؟
، فشكرني ، ومن أدبه الجمّ قال : أعتذر لك عن أي حزن أو ضيق سببته لك .
ولم يكمل كلماته ؛ حتى انهار باكيا قائلا بصوت مسموع يفتّت الصخر وقطرات الدموع تتناثر بصفاء كأنها فتات زجاج من نوع فاخر : خمسة أعياد دون أن أحتضن ابنتي الوحيدة وولديّ مازن وعمّار ،
ماذا فعلت لهم ؟
لقد غيّروا أرقام هواتفهم ؛ حتى لا أتصل بهم . ماذا كنت أفعل لكم ؟ أمّكم ماتت ، وأنتم تزوجتم وتركتموني وحيدا ، وأهملتموني ، كنت أزوركم في بيوتكم ؛ فأشعرتموني بثقلي عليكم ، فتزوجت ؛ ومن بعدها فارقتموني ، ما جريمتي ؟ ماذا كان يجب علي أن أفعل ؟
فقلت : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، ولا يهمّك ، هداهم الله ، غدا سيرجعون إلى صوابهم ، فقال : غدا غدا لا يأتي ، خمسة أعياد ، وكأنني ميّت لا يسأل عنّي أحد ، كلّ واحد منهم شغلته حياته وبيته ، وأنا في هذا العمر من يهتمّ بي ؟ .
وبدأت نبرات صوته تتهدّج ، وهو يقول : تأمّل صورهم على الهاتف ، قبل أن أنام أملأ عيني بملامحهم ، وأقبّلهم ، وخاصة ابنتي شيماء ، ولكن هذا لا يكفي ،
أحيانا كثيرة تسمع زوجتي زفرات بكائي ؛ فتسألني ، وأنا أكتم أنيني في جوانحي ، وأدعو الله لهم أن يرقّق قلوبهم ، حتى كان هذا المساء ، لمحت مازن ينزل من سيارته ؛ ليدخل الصيدليّة فنزلت مسرعا ؛ فقابلني كما رأيت ، وهذا أحنّ القلوب عليّ ، أنا لست متألما منهم ، بل أدعو الله لهم بالتوفيق ، اللهم اغفر لهم وحنّن قلوبهم ، اللهم وفقهم يا رب يا رب ، ورقّق قلوبهم .
كلمات هذا القلب أفزعتني ، أدمعتني ، شعرت بسكين القسوة يذبحني من الوريد للوريد ، ألهذه الدرجة بلغ بنا الحجود ؟!
، قلب جميل ، وروح عذبة تذوب في القلب من أوّل وهلة ، وحضور شخصيته يسعد القلب ، ما جريمته لينال هذه الجرعة الحادة من الجحود ؟
آه أيّها الأبناء ، لو شئت لقلت لكم : ما ندمت في حياتي كلّها إلا على لحظة ، لم أكن فيها تحت قدميّ أبي وأمي الأعزاء ، كل آمالي في لحظة ؛ أتأمّل فيها وجه أبي وأهمس له : وحشتني ، وأرى ابتسامته ولو مرة ، وأنتم أرسل الله لكم جنة الأبّ ، فرفضتم دخولها ،
يالقسوة قلوبكم ! ويا لاتساع مساحة جهلكم !
***************************
موقف ذبح قلبي ، بل طعنه ألف طعنة ، ويبدو أنّ الحزن قد غلّف مواقفي الأخيرة ، فللحزن ألوان وأزياء وعطور ،
ما أصعب دمعة الأب !
وما أقسى قلب الابن حين يتباهى بطعناته لقلب الأبّ !
ماذا جرى للقلوب ؟
زرت إحدى الصيدليات لأصرف دواء ، بينما كان الطبيب مشغولا بقراءة الآثار الجانبيّة لأحد الأدوية ، دخل شاب دون أن يلقي تحية الإسلام يسأل الطبيب صرف وصفة طبيّة ، فاقترب منه الطبيب ؛ لأخذ الوصفة الطبيّة ، وساد صمت بارد على المكان ، قطعه دخول قلب بشوش أعرفه من خلال المسجد ، وألقى تحية الإسلام مسرورا ، تسكن وجهه ابتسامة متألّقة ، ظننته لأول وهلة يرحّب بي ، فاقتربت منه ، ولكنه لم يكن يقصدني ، بل يقصد ذلك الداخل الصامت ذلك الشاب الأخير ؛ فقابله الشاب بملامح بلاستيكية صخريّة جامدة وأيد ميّتة ؛ جعلتني أستشعر سمك أسفلت الجفاء والقسوة التي تغلّف قلب هذا الشاب وملامحه وأصابعه ، بينما وجه هذا الأب بدر متألّق مبتهج ، وهو يسلّم عليه ، والشاب لم يلفظ إلا بقوله : أهلا ، أنت كويس ، بينما الأب واجهه بسيل من الأسئلة : أهلا مازن ، وحشتني وحشتوني كلكم ، كده يا مازن خمسة أعياد ولا أراكم ، والشاب في عزلة كاملة يسأل الطبيب : كم ثمن الدواء ؟ تفضل ، السلام عليكم ،
قالها وحرف الميم في نهاية خطواته في آخر الصيدليّة ، وخرج الأب بابتسامة باهتة ، كما لو كانت ملامحه تحمل اعتذارا لكلّ الحاضرين
وقفت أحلل الموقف ؛ فلم أفهم سوى عطف واهتمام يقابله جحود وتصخّر ، ولكن ما التفاصيل ؟ لا أدري ، وقطع تفكيري حضور الطبيب ، فقمت بدفع اللازم ، وخرجت منطلقا ؛ لأرى في زاوية المبنى هذا الأب واقفا ، فلم أهتمّ ، ولكني دققت النظر بقوة ؛ لأجده منكفئا على كتف الجدار ، فانطلقت نحوه لأستكشف الموقف ، فسمعته يبكي ؛ فاقتربت أكثر ، وحين استشعر قربي جفّف دموعه ، ورسم ابتسامة مصطنعة سرعان ما انهارت ككومة رمل أمام موجة حزن معجونة بالألم ، وربتّ على كتفيه مرات ، وهو قد انفجر في نوبة حزن ودموع وألم ، ولأوّل مرّة أراه باكيا كان وسيما حتى في حزنه ، وواصلت تهدئتي له ؛ حتى استطاع أن يتماسك وسألته : ما بك خير - إن شاء الله - عهدتك في المسجد أنيقا مبتسما حتى في وجوه الأطفال ، فما بك ؟ ، فقال مبتسما : الحمد لله ، خير إن شاء الله ، فقلت : هل أقدّم لك أيّ خدمة أو مساعدة ؟
، فشكرني ، ومن أدبه الجمّ قال : أعتذر لك عن أي حزن أو ضيق سببته لك .
ولم يكمل كلماته ؛ حتى انهار باكيا قائلا بصوت مسموع يفتّت الصخر وقطرات الدموع تتناثر بصفاء كأنها فتات زجاج من نوع فاخر : خمسة أعياد دون أن أحتضن ابنتي الوحيدة وولديّ مازن وعمّار ،
ماذا فعلت لهم ؟
لقد غيّروا أرقام هواتفهم ؛ حتى لا أتصل بهم . ماذا كنت أفعل لكم ؟ أمّكم ماتت ، وأنتم تزوجتم وتركتموني وحيدا ، وأهملتموني ، كنت أزوركم في بيوتكم ؛ فأشعرتموني بثقلي عليكم ، فتزوجت ؛ ومن بعدها فارقتموني ، ما جريمتي ؟ ماذا كان يجب علي أن أفعل ؟
فقلت : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، ولا يهمّك ، هداهم الله ، غدا سيرجعون إلى صوابهم ، فقال : غدا غدا لا يأتي ، خمسة أعياد ، وكأنني ميّت لا يسأل عنّي أحد ، كلّ واحد منهم شغلته حياته وبيته ، وأنا في هذا العمر من يهتمّ بي ؟ .
وبدأت نبرات صوته تتهدّج ، وهو يقول : تأمّل صورهم على الهاتف ، قبل أن أنام أملأ عيني بملامحهم ، وأقبّلهم ، وخاصة ابنتي شيماء ، ولكن هذا لا يكفي ،
أحيانا كثيرة تسمع زوجتي زفرات بكائي ؛ فتسألني ، وأنا أكتم أنيني في جوانحي ، وأدعو الله لهم أن يرقّق قلوبهم ، حتى كان هذا المساء ، لمحت مازن ينزل من سيارته ؛ ليدخل الصيدليّة فنزلت مسرعا ؛ فقابلني كما رأيت ، وهذا أحنّ القلوب عليّ ، أنا لست متألما منهم ، بل أدعو الله لهم بالتوفيق ، اللهم اغفر لهم وحنّن قلوبهم ، اللهم وفقهم يا رب يا رب ، ورقّق قلوبهم .
كلمات هذا القلب أفزعتني ، أدمعتني ، شعرت بسكين القسوة يذبحني من الوريد للوريد ، ألهذه الدرجة بلغ بنا الحجود ؟!
، قلب جميل ، وروح عذبة تذوب في القلب من أوّل وهلة ، وحضور شخصيته يسعد القلب ، ما جريمته لينال هذه الجرعة الحادة من الجحود ؟
آه أيّها الأبناء ، لو شئت لقلت لكم : ما ندمت في حياتي كلّها إلا على لحظة ، لم أكن فيها تحت قدميّ أبي وأمي الأعزاء ، كل آمالي في لحظة ؛ أتأمّل فيها وجه أبي وأهمس له : وحشتني ، وأرى ابتسامته ولو مرة ، وأنتم أرسل الله لكم جنة الأبّ ، فرفضتم دخولها ،
يالقسوة قلوبكم ! ويا لاتساع مساحة جهلكم !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق