الأحد، 20 يناير 2019

الحلاق ....... بقلم / مصطفى دهور


/ الحلاق /

كان عبد الله رجلا طيب القلب، ذو أخلاق عالية، وكان يتمتع بحب الناس في الحي الذي كان يسكن فيه. كان يبلغ من العمر خمسون سنة، وكان يمارس مهنة الحلاقة. كان زبناؤه قليلين، لكنه كان قنوعا، وكان يكفيه قوت يومه هو وزوجته، هذه المرأة التي كانت تحبه وتحترمه وتلبي جميع رغباته. لم يرزقا بأبناء، لكنهما كانا راضيين بقضاء الله وقدره. كان عبد الله مواضبا على صلاة الفجر، وكان يقيم الليل كلما أتاحت له الظروف ذلك؛ فلم تكن تهمه في شيء هذه الدنيا التي لاتساوي عند الله جناح بعوضة. كان رجلا مستقيما، يحب الخير لأصدقاءه ولكل الناس، وكان الكل يقول عنه بأنه رجل من أهل الجنة ! 
كان لعبد الله ثلاثة أصدقاء ، وكانوا يجتمعون عنده في الدكان، كل ليلة بعد صلاة العشاء ، ليتجاذبوا أطراف الحديث ويتبادلوا أحلى النكث وهم يشربون الشاي. كان أغلب حديثهم عن الزمن الجميل الذي ولى ولن يعود ؛ زمن الحب والصدق ، حيث كان الناس يحبون بعضهم البعض في الله، لا من أجل مصلحة معينة تدعوهم للنفاق والكذب والخداع !
ذات يوم، بعدما أغلق الدكان، وهو يتأهب للذهاب إلى المسجد من أجل صلاة الظهر، وقفت بمقربة منه سيارة فخمة ونزلت منها امرأة أنيقة ومعها طفل صغير وقالت " السلام عليكم ! " رد عبد الله السلام وهو يبتسم، دون أن يعرف من هي هاته المرأة . قالت له " ألا تذكرني ؟ أنا زوجة المهدي ! كنا نسكن بهذا الحي ورحلنا منذ مايقرب من عشر سنين ؛ ألا تذكر ذلك ؟ " أطال إليها النظر وهو يتفحص وجهها ، ثم قال : 
- أتعنين المهدي، ذلك الرجل الطيب الذي كان يعمل موضفا بأحد الأبناك ؟ 
- هو بالضبط ! 
- ياسلام ! وكيف حاله ؟ 
- إنه بخير، ولقد أرسل في طلبك من أجل موضوع مهم ! 
- موضوع مهم ، وما هو ؟ 
- لست أدري ! قال لي أن أصطحبك إلى المنزل حيث سيكون بانتظارك، وعندها ستعرف كل شيء ! 
سكت الرجل قليلا، ثم قال :
- أنا الآن، وكما ترين ذاهب إلى المسجد من أجل صلاة الظهر . . قاطعته المرأة وهي تقول : 
- سأعود بعد صلاة العصر، وسآخذك معي إلى المنزل.
- وهو كذلك !

كان المهدي في غاية السرور وهو يلتقي بشخص من أعز الناس على قلبه ! كانت عبارات الترحيب تتوالى في سرعة هائلة ، وكأنه يستظهر درسا كان قد حفضه عن ظهر قلب " أهلا عبد الله . . أهلا وسهلا . . مرحبا ، مرحبا . . هذا يوم كبير . . سأفرش الأرض وردا . . بل سأذبح شاة . . تفضل ، تفضل . . اجلس هنا . . بل تعال هنا . . " 
كان عبد الله يقابل هذا بالسؤال عن الرجل ، وعن أحواله وأحوال عائلته . . 
مر أكثر من ساعة وهما يتجاذبان أطراف الحديث ، وفي لحظة ، قال عبد الله :
- علمت بأنك تريدني في أمر مهم . . 
- اه ، هذا صحيح ؛ شيء في غاية الأهمية ! بل إن شئت قلت إنه مشكل !
- مشكل ؟
- نعم . وأنت هنا من أجل مساعدتنا لحل هذا المشكل ؛ هذا ، إن لم يكن لديك مانع ، بالطبع ! 
- مانع ، لست أظن ؛ فأنا في الخدمة !
- بارك الله فيك ياأخي !

لقد سبق لعبد الله أن ساعد أناسا كثيرين من أجل قضاء حوائجهم ؛ فهو يؤمن بالحديث الشريف ويعمل به ، والذي مامعناه أن لله عبادا سيكونون يوم القيامة على منابر من نور ، نورهم تشخص منه الأبصار ، لا هم بالأنبياء ولا هم بالصديقين ولا هم باالشهداء ، بل إنهم قوم تقضى على أيديهم حوائج الناس . كان عبد الله في كل مرة يشعر بسعادة لا مثيل لها وهو يساعد شخصا ما على قضاء حاجته ، لكن هذه المرة أظن أن الأمر صعب جدا ؛ فطلب المهدي مساعدة عبد الله له ليس طلبا عاديا ، ولست أدري كيف سيكون رد هذا الأخير ! فكر عبد الله كثيرا ، بعد فترة قال :
- سأخبرك بعد يومين ، أعطني رقم هاتفك ! 
عاد الرجل إلى منزله واستشار زوجته في الأمر ، بعد أن أطلعها على مادار بينه وبين المهدي ، فقالت له : 
- لن أعارضك في شيء ، افعل ماتريد !
- أفعل ماأريد ! ألا ترين . .
- كل ماأراه أنك قضيت حياتك كلها تقضي حوائج الناس ، لكني أراك تتردد هذه المرة !
- لأن هذه المرة ليست كباقي المرات ، والأمر لايتعلق بي وحدي !
سكتت الزوجة ، ثم قامت وذهبت إلى المطبخ حيث كانت تهيأ وجبة العشاء ؛ لحق بها عبد الله ، وما كاد أن يفتح فمه حتى قالت له :
- أعرف أن الأمر يتعلق بي أنا ، وأنا موافقة على زواجك من هذه المرأة التي حدثني عنها !
- ماذا ؟ أتدرين ماتقولين ؟
- نعم ، أدري ماأقول ! لقد وضع فيك هؤلاء الناس أملا كبيرا ، وهم ينتظرون منك أن تساعدهم على حل مشكلتهم !
- بزواجي من امرأة أخرى !
- وأين المشكل ، مادمت أنا موافقة !
- لا ، إني أكاد أن أجن ! ألا تغارين علي ؟
- بلى ! لكني لاأريد أن أقف في طريقك من أجل فعل الخير ! 
- ياامرأة ، ياامرأة . . 
- يارجل ، يارجل . . لم هذا التوتر ، وهذا القلق ؟ ألم تقل بأن هذا الزواج لن يدوم أكثر من تسعة أشهر ، أي بعدما تكون المرأة قد وضعت حملها دون أن يفتضح أمرها ، بحيث لن يعلم أحد من الجيران ، أو من أفراد عائلتها بأنها كانت حاملا من شخص آخر ، ويعلم الكل بأنك أنت هو الأب الشرعي للطفل ؟ أليس هذا ماقلت ؟
- هو بالضبط !
- ثم أضفت أنك ستطلقها فورا بعد كل هذا ؟
- نعم ، هذا صحيح !
- إذن لا داعي للتوتر ، فليس هناك أي مشكل !
أمعن عبد الله النظر في زوجته لبضع ثواني ، ثم قال :
- والله ، لم أكن أنتظر منك كل هذا !
- وماذا كنت تنتظر ؟
- لست أدري . . كان يخيل إلي أن هذه القضية ستأخذ أبعادا أخرى، وربما نتج عنها خصام، وشجار، وطلب طلاق . . 
- تقول هذا وكأنك لاتعرفني !
- لا ، إني أعرفك جيدا ؛ فمعاشرتنا لبعضنا تطل على السنة العشرين ، لكن لم يسبق لي أن عرفتك من خلال موقف كهذا !
- هذا صحيح ! لكن لم تقل لي، ماقصة هذه المرأة ؟ فليس من قبيل الصدف أن تكون حاملا بطريقة غير شرعية ! ربما كانت امرأة "من إياهم" كما يقال !
- لا ، لست أظن ذلك ! إنها على العكس امرأة محترمة ومن عائلة محترمة ؛ إنها أخت زوجة المهدي. 
- اه ، أخت زوجته !
- نعم . لقد أثرت في قصتها لدرجة أنني أصبحت أرى أنه من الواجب مساعدتها وستر أمرها أمام الناس .ألم يأمرنا ديننا بذلك ؟ 
هاهو المؤذن ينادي لصلاة العشاء . قام عبد الله من مكانه وقال لزوجته :
- أنا ذاهب إلى المسجد ، وعندما أعود سأحكي لك ماوقع لهذه المرأة المسكينة حتى أصبحت تحمل ابنا غير شرعي في بطنها . إنه شيء لايصدق ! 
وافقت المرأة زوجها بإيماءة من رأسها ، ثم قامت بدورها لتتوضأ وتؤدي فرض الله .
هذه المرأة هي أخت زوجة المهدي.اسمها عائشة . فتاة جميلة وأنيقة . تعرفت إلى شاب اسمه رضوان وأحبته ، وكانت تبلغ من العمر ستة وعشرين سنة. مرت ست سنوات . توطدت العلاقة بينهما ، وأصبحا صديقين حميمين . ذات يوم ، قال لها بأنه قرر أن يتزوجها ، وأخذها إلى منزلهم من أجل أن تتعرف إلى عائلته. كانت فكرة طيبة أدخلت على الفتاة سرورا كبيرا ! لكن وقع مالم يكن في الحسبان !
إيه ، يا دنيا ! بعد أن رفع الحياء والحب والصدق وأشياء أخرى جميلة ، جاء دور الثقة التي انعدمت بين الناس ، بحيث أصبح الإنسان الطيب الذي يصدق كل مايقال له فريسة للذئاب البشريه التي تنهش لحمه وتمتص دماءه دون شفقة أو رحمة ؛ ونحن الآن أمام مثل يجسد هذا كله !! لقد قام رضوان ، ودون تردد ، أو خجل ، مجردا من كل مروءة وشهامة باغتصاب رفيقته وحبيبة قلبه عائشة ، وهي المسكينة في غفلة من أمرها ، بعد أن دس لها منوما شديد المفعول وسط كأس من عصير الليمون . تلاشت قدرة الفتاة على التحكم بعضلاتها وجسدها بعد تناولها المشروب ، ثم فقدت الوعي كليا ، ففعل بها حبيبها ماشاء . آه من الغدر، فهو أحقر الجرائم الإنسانية وأكثرها خسة !
بعد مضي أكثر من ساعتين ،بدأ المنوم يفقد تأثيره. لاحظ الشاب ذلك ، فغادر الغرفة متسللا إلى الخارج في هدوء . استيقضت الفتاة بعد فترة وجيزة لتجد نفسها ملقاة فوق أحد الأسرة ، مجردة من كل ثيابها والدماء تسيل منها إثر افتضاض بكارتها . 
جاء المهدي وزوجته رفقة الفتاة مساءا إلى المنزل الذي وقع فيه ماوقع ، فعلموا من صاحبة المنزل أن كل ماقاله ذلك الشاب للفتاة غير صحيح ، وأن هذا المنزل هو فقط للدعارة ، وأن أناسا كثيرين يلجون إليه من أجل إرضاء رغباتهم ، ثم ينصرفون .
لم يجرؤ المهدي على الإتصال بالبوليس خوفا من الفضيحة بين الجيران والأهل والأقارب ، فضيحة كل مايمكن أن يقال عنها ، حسب زوجة الرجل أنها ستكون بجلاجل !

بعد أقل من أسبوع ، عقد عبد الله قران الزواج على عائشة ، وبعد تسعة أشهر وضعت مولودها ، ولم يكن أحد يعلم بأن هذا الإبن هو ابن شخص آخر، وليس ابن السيد عبد الله . 
بعد مرور بضعة أشهر ، بدأ عبد الله يستعد لتطبيق البند الأخير من الإتفاقية ، ألا وهو تطليق المرأة . وذات ليلة ، وبعد تناول العشاء ، قال أمام الجميع :
- أظن أنني قد قمت بما وجب القيام به ، والآن لابد أن ينتهي كل شيء ، وتأخذ المسائل سيرها الطبيعي بتطليقي لعائشة !
خيم صمت رهيب على الجميع ، ولم ينبس أحد ببنت شفة . 
هاهي عائشة تقوم من مكانها ، وقد اغرورقت عيناها دموعا لتغادر المكان وهي تهرول ، متجهة نحو غرفة النوم . دخلت وأغلقت عليها الباب ، ثم أجهشت بالبكاء ، وهي تستلقي على السرير . لحقت بها أختها ، ثم تبعها زوجها . بعد أن رأت هذا المنظر المؤلم ، قالت زوجة عبد الله :
- إنها امرأة طيبة القلب ! لقد أحبتنا بصدق ، والآن إنها تبكي فراقنا المرتقب وابتعادنا عنها .
- أتظنين أن الأمر كما تقولين ؟
- بالتأكيد !
كان ماتوقعته زينب زوجة عبد الله صحيحا ! كانت عائشة تبكي وتقول بأنها لن تطيق فراق هذين الشخصين اللذين لم تر ولم تسمع في حياتها عن أحد مثلهما ! ماالعمل إذن ؟ فالبكاء لايفيد بشيء !
قال المهدي :
- لم لاتبقوا معنا ونعيش سويا ، على الحلو والمر ؟
- ماذا ؟ 
- لقد أحببناكم في الله ياأخي ، وبادلتموننا نفس الحب ، فماالداعي أن نفترق !
قالت عائشة وهي تبكي :
- لقد عشنا سنة كاملة كاالإخوة ، وأحب كل منا الآخر بصدق . . فأكيد أننا سنعيش في سعادة دائمة إن بقينا مجتمعين ! أما أنت أختي زينب ، فلن أكون لك أبدا ضرة ، بل أختك الصغرى التي تحبك وتحترمك وتخدمك بكل ماأوتيت من قوة ! 
وقالت زوجة المهدي :
- ألم تلاحظوا أن قلوبكم وقلوبنا تتشابه بنسبة تسعين أو أكثر بالمائة ؟ أنتم ونحن نحب الخير للناس ونساعدهم على تحقيق ذلك ، وهذا سيجعلنا سعداء إن بقينا مجتمعين ، أما الفراق والبعد عن بعضنا البعض فكونوا على يقين أنه سيسبب لنا حزنا عميقا سيبقى معنا طول حياتنا !
- أما أنا ، يضيف المهدي فأريد أن أقول شيئا آخر ! في حالة ماإذا تم اتفاقنا جميعا على شيء واحد ، فأود أن تعلموا أنكم ستسكنون مع عائشة في منزلها ، بالطابق الثاني ، والذي ورثته عن أبيها ، بعد وفاته ، كما ورثت عنه أموالا كثيرة !
- ولم لاتقل بأني سأكتب المنزل باسم عبد الله ! 
- اه ، شيء جميل جدا !
- وسيكون عنده أجمل صالون للحلاقة ، تضيف عائشة ، مكتوب كذلك باسمه !
نظر إليها عبد الله بشيء من الفضول ، فقالت له : 
- لاتظن أنني أرتشيكم ، لكنني أقدم لكم عربون المحبة والإخلاص من أجل حياة سعيدة تعم الجميع ؛ وهذا شيء أغلى من كل أموال الدنيا ! 
هاهي السيدة زينب تأخذ الكلمة لتقول :
- أعلم أن الكل ينتظر رأيي . . فأنا موافقة على كل ماتريده أختي عائشة ، لا من أجل المنزل أو الصالون ، ولكن لأنني أحببتها في الله ، ولا أسمح لنفسي أن أسبب لها أي نوع من التعاسة أو ماشابه ذلك بالبعد عنها ؛ والخير فيما اختاره الله !
- ونعم بالله ، سيدتي الفاضلة ، يضيف المهدي ؛ فالله عز وجل قال " عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " ، كما قال " إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتيكم خيرا " . فلنتوكل إذن على الله ، وسنلقى كل الخير في حياتنا ! فما خاب من استعان بالله وفوض أمره إليه ! 
جاء دور عبد الله الآن ليقول :
- إني سعيد جدا بكل ماأسمع ، وأنا على يقين أننا سنحيا حياة سعيدة ، بكل مافي الكلمة من معنى ؛ إلا أن هناك شيء آخر لابد من الوقوف عنده !
- شيء آخر ؟
- نعم أخي المهدي ، هذا الطفل الصغير ! من أجل أن يعيش عندما يكبر في سعادة دائمة هو كذلك ، بدون مشاكل نفسية أو عاطفية ، يجب أن نحفظ نحن الخمسة سره ، ولا نفكر أن نقول له يوما أن أباه هو فلان أو فلان . . فابتداء من الآن ، أنا هو أبوه ، أعني أبوه الشرعي ، وعائشة هي أمه ، وسيكون مسجلا بسجلات الحالة المدنية باسمي أنا !
كانت فكرة جيدة ومقبولة لدى الجميع أطلق على إثرها النسوة الثلاث زغاريد قوية ومسترسلة ، تعالت في الفضاء ، وارتجت لها كل جدران المنزل !
................... 
بقلم / مصطفى دهور   
الدار البيضاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فن البوستات كمال العطيوى