الإمضاء
أول يوم لها فى المدرسة، بعد رحيل قرة عينيها .
منذ أسبوع فقط أصبحت تحمل لقب ابنة الشهيد، لم يستطع هذا اللقب أن يكون مسكنا لأوجاعها، فطفولتها لاتزال بريئة، على إدراك هذا اللقب الفخر، لم يدرك عقلها الصغير هذا الفخر ، ولا ادراك أبعاد هذه الحقيقة.
ماتزال فى الصف الخامس الابتدائي، كل شيء حولها يشعرها بالحزن، عيونها كغيمة سوداء لا تلبث أن تهب عليها رياح حزن خفيفة إلا وأهلت مدامعها بسخاء، كالذى حدث معها اليوم فى المدرسة ، بعد أن طلبت المعلمة من التلاميذ توقيع اولياء الأمور على ورقة الامتحان، أحست برغبة عارمة بالبكاء، وهى تستلم الورقة، ووقع كلماتها يحدث صخب بداخل الطفلة.
(أعط هذه الورقة لأمك أو أحد أخويك ليوقعها، وأحضريها معك فى الغد)
خرجت الطفلة من المدرسة تجر خطواتها إلى المنزل، وتذكرت أن أمها وأخوايها ذاهبون إلى القبر، لوضع لوحة على قبر ابيها، عليها اسمه، فى بلدته.
عادت الطفلة متأثرة دموعها تغمر عينيها، محدثة نفسها : أمي ليست هنا، وأبي لن يعود أبداً وكل ما يشغل فكرها هو من سيوقع على ورقة الامتحان. وضعت الورقة فى حقيبتها بكل حزن وأسى وخلدت إلى النوم.
فى تلك الليلة رأت والدها الشهيد وكان كعادته يرتدى ملابس العمل فهو ضابط، هرولت إليه متسائلة: أبي هل احضر لك شيئاً؟ فرفعها إليه وطبع على جبينها قبلة حانية ثم قال لها فى حنان: حبيبتي احضري ورقة الأمتحان لكي أوقعها لك.
أسرعت فى سرور تحضر الورقة لكن لم تجد قلم أزرق، وجدت قلم أحمر ووالدها لا يوقع باللون الأحمر، لا تتذكر هل عثرت على قلم أزرق أم لا، كل ما تتذكره انها عندما عادت لابيها لم تجده، كعادة الاطفال لا يتذكرون رؤياهم فى الصباح.
استيقظت الطفلة فى الصباح، وضعت كتبها فى الحقيبة، وقعت عيناها على ورقة الآمتحان ولم تصدق عيناها: ياه! إنها ممضاة ! بإمضاء والدها! بقلم أحمر!
بعد رؤيتها للورقة، تذكرت ذلك الحلم، ذهبت مسرعة الى أختها التي تكبرها بسنتين: انظري الى الورقة عليها امضاء أبي؟
تعجبت أختها: لعل أخي الأكبر قد عاد وكتب اسم أبي عليها.
كلاتا تعلمان بأن الأخ قد ذهب مع أمهما الى المقابر فمن المستحيل أن يكون هو من كتب عليها! انتابها شعور لا تستطيع وصفه كانت تعلم أن أباها التحق بقافلة الشهداء، لكنها احست بلحظةٍ أن اباها معها يسمعها لكن كيف؟!
في هذه اللحظة أدركت معنى كلمة "الشهيد".
وضعتها في حقيبتها وذهبت بها إلى المدرسة بكل سرور فهى كبقية الطالبات أبوها وقع على ورقتها أعطتها للمديرة.
أخبرتها بما جرى، لم تكذب أقوالها، اخذتها منها بكل تعجب وارسلتها إلى الجهات المختصة وإلى عدة جهات للتأكد من صدق أقوالها .
جاء الرد : (قمنا بمطابقة هذا الامضاء بأكثر من ستين امضاء للشهيد، وتوصلنا الى انه هو بذاته امضاء الشهيد)
و ارسلت الورقة الى إحدى الدول الأوروبية للمعاينة. والنتيجة هي أنهم لم يستطيعوا الى الآن تشخيص نوعية المادة الحمراء المستخدمة في الورقة هل هي حبرٌ أم مادة أخرى.
فاطمة مندي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق