
خامس الخلفاء الراشدين
أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي (61هـ\681م - 101هـ\720م)، هو ثامن الخلفاء الأمويين، عمر الثاني. ولد سنة 61هـ في المدينة المنورة، ونشأ فيها عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان شديد الإقبال على طلب العلم. وفي سنة 87هـ، ولّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك على إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، فصار والياً على الحجاز كلها، ثم عُزل عنها وانتقل إلى دمشق. فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّبه وجعله وزيراً ومستشاراً له، ثم جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة 99هـ تولى عمر الخلافة.
تميزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، منها: العدلُ والمساواة، وردُّ المظالم التي كان أسلافه من بني أمية قد ارتكبوها، وعزلُ جميع الولاة الظالمين ومعاقبتُهم، كما أعاد العمل بالشورى، ولذلك عدّه كثير من العلماء خامس الخلفاء الراشدين، كما اهتم بالعلوم الشرعية، وأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف. استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، حتى قُتل مسموماً سنة 101هـ، فتولى يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده.
..........................
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: «يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي»، يريد عبد الله بن عمر، فتؤفف به ثم تقول له: «اغرب، أنت تكون مثل خالك»، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: «يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به»، فلما أرادت الخروج قال لها: «خلفي هذا الغلام عندنا (يريد عمر) فإنه أشبهكم بنا أهل البيت»، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، فقال لها: «وأين عمر؟»، فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً. وهكذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.
وكان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرةً بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب.
وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: «ما يبكيك؟»، قال: «ذكرت الموت»، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
.................
مبايعته بالخلافة
اقترح الفقيه رجاء بن حيوة الكندي على الخليفة سليمان بن عبد الملك في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، قال ابن سيرين: «يرحم الله سليمان، افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: "أؤمن بالله مخلصاً"».
وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر، ومنها ما ذكره ابن سعد في طبقاته عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً خضراً من خز، ونظر في المرآة فقال: «أنا والله الملك الشاب»، فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ، فقلت: «ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يُحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح»، فقال سليمان: «كتاب أستخير الله فيه وأنظر، ولم أعزم عليه»، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: «ما ترى في داود بن سليمان؟»، فقلت: «هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت»، قال: «يا رجاء فمن ترى؟»، فقلت: «رأيك يا أمير المؤمنين وأنا أريد أن أنظر من يُذكر»، فقال: «كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟»، فقلت: «أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً»، فقال: «هو على ذلك، والله لئن ولّيته ولم أولِّ أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده»، ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم، قال: «فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به»، قلت: «رأيك»، فكتب بيده:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم.»
وختم الكتاب، فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مُرْ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب فجمعهم، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: «اذهب بكتابي هذا إليهم، فأخبرهم أنه كتابي ومُرهم فليبايعوا من وليت». ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: «سمعنا وأطعنا لمن فيه»، وقالوا: «ندخل فنسلم على أمير المؤمنين»، قال: «نعم»، فدخلوا فقال لهم سليمان: «هذا الكتاب (وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة) هذا عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب»، فبايعوا رجلاً، ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء... قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يُدخل على الخليفة أحداً. فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: «بايعوا»، قالوا: «قد بايعنا مرة ونبايع أخرى!»، قلت: «هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم»، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً، فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: «قوموا إلى صاحبكم فقد مات»، قالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: «لا نبايعه أبداً»، قلت: «أضرب والله عنقك، قم فبايع»، فقام يجر رجليه. وأخذت بضبعي عمر فأجلسته على المنبر، وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، فقال عمر: «نعم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حين صار إلي لكراهتي له
......................
ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز
يقع الضريح في قرية دير شرقي الواقعة شرق مدينة معرة النعمان التابعة لمحافظة إدلب في سوريا، بناء الضريح الأساسي عبارة عن بناء قديم يعود إلى العهد المملوكي، وقد ظل يعاني الإهمال حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي عندما قامت وزارة الآثار والمتاحف (وبجهود من أمين متحف معرة النعمان الباحث كامل شحادة) بتأهيل البناء بالكامل وبناء قبة فوق باحة الضريح، وإنشاء حديقة عامة حوله يؤمها الزوار والسائحين من كل البلاد ليقفوا أمام ضريح هذا الخليفة الذي كان مضرب الأمثال في ورعه وتقواه وعدله.
موقع الضريح عبارة عن دير يعود إلى القرن الخامس الميلادي، حيث كان يسكنه الراهب سمعان وعندما أصبح الخليفة عمر بن عبد العزيز والياً على خناصرة قرب حلب نشأت علاقة قوية بينه وبين الراهب سمعان حيث كان الخليفة عمر يكثر من زيارة هذه المنطقة حيث أراضي أمه وأخواله، وحين أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين استمرت هذه العلاقة، وتطورت هذه العلاقة حتى اشترى من الراهب سمعان مكانا في الدير لكي يدفن فيه، وقد أصر أن يدفع ثمنه للراهب الذي أراد أن يعطيه إياه هدية حباً بجواره، ولما توفي سنة 101 هـ دفن مع زوجته فاطمة بنت عبد الملك في هذا القبر، وقد زاره العديد من السلاطين الأيوبيين والمماليك ومنهم السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 584 هـ.
قام الباحث السوري كامل شحادة بإجراء دراسة لتحديد موقع الضريح بدقة، واستطاع من خلال هذه الدراسة إثبات المكان الدقيق للضريح في قرية دير شرقي (الواقعة شرق مدينة معرة النعمان ومن ثم العثور على قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز. وبعد تحديد الموقع استطاع الباحث كامل شحادة الحصول على موافقة وميزانية من وزارة الآثار والمتاحف لترميم الضريح وبناء قبة فوقه حتى أصبح بحالة جيدة جداً وعاد إليه رونقه
رحم الله عمر بن عبد العزيز وكل الخلفاء الراشدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق