الحلقة الرابعة والعشرون ... من برنامجكم الرمضانى اليومى " قطوف وأزهار من نوادر الأخبار " والذى يقدمه لكم فضيلة الشيخ محمد شرف الكراديسي الداعية الإسلامى والباحث فى السيرة النبوية العطرة ... وكل عام وجميع الأمة الإسلامية بخير وسلام ...
دقة بدقة وإن زدت زاد السقاء
كان تاجراً كبيرا، وكانت تجارته بين العراق وسورية يبيع الحبوب في سورية، ويستورد منها الصابون والأقمشة
وكان رجلاً مستقيما في خلقه، قوي التدين، يزكي ماله ويغدق على الفقراء مما أفاء الله به على خير .
وكان يقضي حاجات الناس، لايكاد يرد سائلاً وكان يقول:
((زكاة المال من المال وزكاة الجاه قضاء الحاجات))•
وكان يعود مرضى قريته ويتفقدهم كل يوم تقريبا، وكان يصلي المغرب والعشاء في مسجد قرب داره فلا يتخلف عن الصلاة أحد من جيرانه إلا ويسأل عنه فإذا كان مريضاً عاده، وإذا كان محتاجا إلى المال أعطاه من ماله وإذا كان مسافراً خلفه في عياله• وكان له ولدُ وابنة واحدة بلغا عمر الشباب•
وفي يوم من الأيام، سأل ولده الوحيد أن يسافر إلى سورية بتجارته قائلاً له:
((لقد كبرت ياولدي، فلا أقوى على السفر• وقد أصبحت رجلاً والحمد لله فسافر على بركة الله مع قافلة الحبوب إلى حلب فبع ما معك، واشتر بها صابوناً وقماشا ثم عد إلينا، ولكنني أوصيك بتقوى الله، وأطلب منك أن تحافظ على شرف أختك))•
وسافر الشاب بتجارة أبيه من مرحلة إلى مرحلة:
يسهر على إدارة القافلة، ويحرص على حماية ماله، ويقوم على شـؤون رجاله•
وفي حلب ، باع حبوبه، واشترى بثمنها من صابونها الممتاز وقماشها الفاخر، ثم تجهز للعودة إلى الموصل •
وفي يوم من الأيام قبيل عودته من حلب رأى شابة جميلة تسير في طريق مقفر بعد غروب الشمس اختطف منها قبلة ثم هرب على وجهه وهربت الفتاة وما كاد يستقر به المقام في مستقره إلا وأخذ يؤنب نفسه وندم على فعلته •
وكتـم أمره عن أصحابه، ولم يبح بسره لأحد، وبعد أيام عاد إلى بلده•
وكان والده الشيخ في غرفته يطل منها على حوش الدار
حين طرق الباب السٌقاء، فهرعت ابنته إلى الباب تفتحه له
وحمل السقاء قربته وصبها في الوعاء وأخت الفتى تنتظره على الباب لتغلقه بعد مغادرة السقاء الدار•
وعاد السقاء بقربته الفارغة، فلما مر بالفتاة قبلها، ثم هرب بعد ذلك •
ولمح أبوها من نافذة غـرفته ما حدث، فردد من صميم قلبه : ((لاحول ولا قـوة إلا بالله))•
ولم يقل الأب شيئاً ، ولم تقل الفتاة شيئاً •
وعاد السقاء في اليوم الثاني إلى دار الرجل كالمعتاد، وكان مطأطىء الرأس خجلا، وفتحت له الفتاة الباب ولكنه لم يعد إلى فعلته مرة أخرى•
لقد كان السقاء يزود الدار بالماء منذ سنين، كما كان يزود دور القرية كلها بالماء، ولم يكن في يوم من الأيام موضع ريبة، ولم يحدث له أن ينظر إلى محارم الناس نظرة سوء، وكان في العقد الخامس من عمره وقد ولٌى عنه عهد الشباب وما قد يصحبه من تهـور وطيش وغـرور ••
وعاد الابن إلى بيته ، موفور الصحة، وافر المال•
ولم يفرح والده بالصحة ولا بالمال، لم يسأل والده عن تجارته ولا عن سفره، ولا عن أصحابه التجار في حلب•
لقد سأل ولده أول ما سأله: ماذا فعلت منذ غادرت الموصل إلى أن عدت اليها ؟
وابتدأ الفتى يسرد قصة تجارته، فقاطعه أبوه متسائلا :
((هل قبلت فتاة، ومن متى وأين)) فسقط في يد الشاب، ثم أنكر••
واحمرُ وجه الفتى وتلعثم، وأطرق برأسه إلى الأرض في صمت مطبق كأنه صخرة من صخور الجبال لايتحرك •
وكان الصمت فترة قصيرة من عمر الزمن، ولكنه كان كأنه الدهر.
وأخيراً قال له أبوه: لقد أوصيتك أن تصون عرض أختك في سفرك ، ولكنك لم تفعل•
وقص عليه قصة أخته وكيف قبلها السقاء، فلا بد أن تلك بتلك القبلة وفاء لدين عليك ••
وانهار الفتى، واعترف بالحقيقة•
وقال له أبوه مشفقا عليه وعلى أخته وعلى نفسه:
((أنني لم أكشف ذيلي في حرام، وكنت أصون عرضي حين كنت أصون أعراض الناس))•
ولا أذكر أن لي خيانة في عرض أو سقطة من فاحشة، أرجو ألا أكون مدينا لله بشيء من ذلك•
وحين قبل السقاء أختك تيقنت أنك قبلت فتاة ما، فأدت أختك عنك دينك، لقد كانت دقة بدقة، وإن زدت زاد السقاء !!•
وكانت يمامة تتغـنى فوق الــدار، ومما ردًدتـه:
من خاف على عقبه وعقب عقبه، فليتـق الله ••
ومن تعقب عـورات الناس، تعقب الله عـورته•
ومن تعقب الله عـورته، فضحه ولو كان في جوف رحــم•
ومن كان يحرص على عـرضه، فليحـرص على أعـراض الناس ••
ومن أراد أن يهتك عـرضه، فليهتك أعـراض الناس ••
لـذة ساعة غصة إلى قيام الساعة••
وكل دين لابد له من وفـاء •
ودين الأعـراض وفـاؤه بالأعـراض ••
والمرء يهتـك عـرضه، حين يهتك أعـراض الناس•
والذين يفرحون باللـذة الحـرام قليلاً، سيبكون على ماجنت أيديهم كثيرا•
ولكنهم غافـلـون عن أمرهم، لأنهم آخـر من يعلمون •• ولو علمو الحق، لتـواروا عن البشر خجلا وعـارا ••
قال تعالى: (إن ربك لبالمرصاد، وإنه أعـدل العادلين)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق