وفاء من نوع فريد :*بقلم وألوان :*خالد سليمان
بعض القلوب تسكن فينا وتأوي إلينا ؛ فليتنا لا نردّها ، ونحتضنها ونأوي إليها ، ونؤويها ،
لي صديق حبيب مريض بالسرطان ، وقد بلغ مراحله الأخيرة معه - اللهم اشف كل مسلم مريض يارب يارب يارب - زرته يوما ، وكم كانت سعادته بي وسعادتي به !
نشأنا أصدقاء مرحلة جامعية ، وانقطعت علاقتنا وأخبارنا دون قصد منّا ، فأنا التهمتني الغربة ، وهو طواه عنّي واقع الحياة ، وفي مساء شتوي بارد ، لمحني على شاطئ النيل ، فجرى نحوي ؛ ليسألني بأدب لو تكرّمت : هل أنت خالد سليمان ؟؟
فابتسمت وتأملته جيدا ، فوجدت ملامحه قد تغيّرت ، فقلت : نعم ، ومن حضرتك ؟؟ فانطفأت ابتسامته ، وقال : ألا تعرفني ؟؟
وهنا استيقظت ذاكرتي البصريّة ، ومن قبلها استيقظت ذاكرتي السمعيّة ، ولا سيّما ، وهو يذكرني بموقف باسم لم أقصده ، ولكنه كان هديّة من الله لي لأزيل كآبتي ، عندما ذهبنا لمطعم فاخر ، وأحضر لنا صاحب المطعم دجاجة مشوية نحيفة ، فلما وضعها أمامي ؛ قلت له بابتسامة مباشرة : لو تكرمت لا نريد دجاجة مستعملة ومأكولة من قبل ،
فضحك الجميع ، وكرر صديقي المقطع مرة أخرى ، فتذكرت صاحب الصوت على الفور ، واحتضنته طويلا ، وهو يباعد بيني وبينه ويقول : من فضلك سلّم عليّ دون احتضان ...
فقلت ولم ؟ ، قال : أنا مريض بالمرض الخبيث ، وهنا ضممته لقلبي طويلا ، وقلت : شفاك الله وعافاك ، وظل يحكي لي مراحل العلاج باستفاضة ويداي محتضنتان يديه .
بعد لحظات حضرت زوجته وأطفاله ، فقررت الفراق لموعد آخر ، وقال : لا ، أرجوك ، لا تحرمني من لحظاتك الجميلة ، واجعل لي نصيبا من وقتك ، فالعمر قد اقترب من نهايته ، فوعدته بزيارة في القريب العاجل ، ومضى كلّ منا لحال سبيله .
وزرته مرات ومرّات ، وكل زيارة يختمها بقوله : امكث معي قليلا ، انتظر ، ولما يجدني مصرّا على النزول يقول بابتسامة حزينة : سأنتظرك وتتسع ابتسامته ، وهو يقول : سأنتظرك وستزورني ، فأبتسم قائلا بهمس : سأزورك .
والليلة بعد صلاة العشاء جال بخاطري أن أزوره ، ولا سيّما ، وأنا لا أنسى قوله لي : لا تتصل بي ، زرني في أي وقت رجاء ، وأثناء دخولي منزله قابلتني سيدة وقور ، فانتظرت حتى تنزل من سلّم البيت الطويل ، ويبدو أنها تأملتني ، وعرفتني بينما كنت مشغولا بزخارف وسيمة على جدران منزله ، ولما اقتربت مني قالت : السلام عليكم ، بينما كنت منطلقا لصعود السلّم بسرعتي المعهودة ، فنادتني : أستاذ خالد ، هل من الممكن دقيقة ؟؟ فاقتربت ، ولكن من هذه ؟
وعرفتني بنفسها ، إنها نوال زوجة صديقي عصام الأولى التي انفصل عنها من سنوات ، فتذكرتها قائلا : أهلا بك ، فقالت بحزن ، هل حالته خطيرة إلى هذا الحد ؟ شفاه الله وعافاه ، من فضلك كن دائما معه ، وربنا يتولاه برحمته ، لم أتمكن من قول شيء سوى إن شاء الله .
واهتز قلبي لمشهد انسحابها أمامي قائلة : من فضلك أبلغه سلامي ، السلام عليكم .
منحتني كلماتها أجنحة ؛ لأطير أطير على درجات السلّم ، وكأني أركب بساط الريح ، وطرقت الباب بدقّاتي المعروفة ، ففتحت الباب ابنة صديقي التي قالت : أبي في انتظارك ولا سيّما ورائحة القهوة تحتضنني وتحملني إلى حجرته ، وبعد السلام والتحية ، قلت له : سبحان الله ، والله فيها الخير ، فقال : عمن تتحدث ؟
فقلت عن الضيفة الكريمة التي كانت هنا .
فقال : لم يزرني أحد .
فقلت : نوال ، أستاذة نوال ،
فقال مدهوشا : من نوال ؟ ، أستاذ خالد ، هل أنت في وعيك ؟
فقلت لقد التقيتها في مدخل البيت .
فوقف وقال : نوال لم أرها منذ خمس عشرة سنة .
فقلت : والله التقيتها من دقائق ، وقد أبلغتني أن أسلّم عليك ، وأوصتني بك خيرا ،
فنادى ابنته وزوجته ، وقال : هل سأل أحد عليّ ؟
فقالت زوجته وهي واجمة صامتة : نوال زارتك من نصف ساعة أو أقل .
فوقف حزينا منكسرا : لماذا لم تأذني لها بالزيارة ؟؟
فقالت : أبلغتها بحالتك وأنّك نائم .
وهنا ، أدركت من ملامحه وحزنه وتجاعيد برزت فجأة ، وكلمات خرجت بغير حروف ، واقترب من الشبّاك ، ويكشف الستائر ويقول : هل من الممكن أن تدركها ؟؟
فقلت : لا أعتقد ، ربما تكون قد ركبت سيارة .
فقال : هل تعرف عنوانها أو رقم هاتفها ؟
فقلت : لا والله .
فاقترب من وسادته ؛ ليضعها على وجهه ، وهو يبكي في صمت ، ويردّد : فيك الخير يا نوال ، فيك الخير يا نوال ،
يارب أشوفها تاني قبل أن أموت .
واقتربت منه ، وقلت : ليتني ما زرتك الليلة حتى لا أرى دموعك .
وعاجلني قائلا : لماذا لم تأخذ رقمها أو عنوانها .
كان أمنية حياتي أن أقول لها كلمة واحدة : سامحيني ، وأنا سامحتها عن كل ما جرى منها ومن أهلها نحوي .
وحملني أمانة أن أقول لها لو التقيتها أن تسامحه وتدعو له بالرحمة .
موقف عابر فرض نفسه على ذاكرتي وقلبي ، وخاصة وأنا أعشق الوفاء والأوفياء ، وحين ودعته ، همس في أذني : هل من الممكن أن تراها ؟؟ فقلت له : ربما في لقاء آخر ، فقال : أنت أطول عمرا منّي ، لا تنس أن تخبرها شكري وتقديري لمجرد التفكير في زيارتي ، فما بالك بدخولها بيتي ..؟ ، وهنا طمأنته : إن شاء الله سأخبرها وستزورك مرة أخرى وأخرى .
فقال : الأمل في الله كبير ، يارب أشوفها يارب .
وخرجت من عنده وقلبي مشحون بالانكسار ، فقد كنت أريد أن أزرع وردة في بستان لحظاته ، وليس شوكة غرستها دون قصد منّي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق