السبت، 22 يونيو 2019

قصة (( مسألة مبادئ )) ........ بقلم مصطفى دهور / المغرب


/ مسألة مبادئ /
- لن أدفع شيئا ياعمي ، فهذه مسألة مبادئ !
- والله إنك لغبي يابن أخي ! أنا جئتك بحل لك مشاكلك ! 
- لا تحاول معي ، فلن أدفع مليما واحدا كرشوة للحصول على عمل !
- ولم تسميها رشوة ؟
- سبحان الله ، وهل للرشوة معنى آخر غير هذا ؟
- سميها هدية ! والنبي قبل الهدية ، أليس كذلك ؟
- أنت تقلب الحقائق، وتسمي الأشياء بغير أسمائها ! شيء لا يصدق !
لم يضف شيئا. قام من مكانه، بعد أن أطفأ سيجارته في المنفضة، ثم خرج. كان منفعلا. لاأخفيكم القول ، فأنا لا أحبه كثيرا ! إنه يسعى فقط وراء مصلحته ، ولا أذكر يوما أنه قام بمساعدة أحد من أفراد العائلة اعتبارا للقرابة الدموية ، مثلا ؛ ومن المؤكد ، في حالتنا هذه أن يكون له نصيب مفروض في المبلغ الذي يطلبه مني للحصول على عمل ؛ إنه يلعب دائما دور الرائش ، بحثا عن المال ، ولا يهمه في ذلك صديق أو حبيب ! 
يالهذا الزمان ! طال الفساد كل شيء ، أخلاق الناس وقيمهم ، وكدا أرواحهم ؛ شيء لايطاق ! لقد درست أنا وتعبت وسهرت الليالي وحرمت نفسي من أشياء كثيرة ؛ لقد بذلت مجهودات جبارة من أجل نيل هذه الشهادة ، شهادة الإجازة ، والتي تؤهلني لأن أشغل منصبا محترما في شركة ما ، وبمرتب محترم أيضا ، دون أن أدفع قسطا من المال من أجل الحصول على ذلك ! والله لقد اختلطت المفاهيم وعمت الفوضى واضطربت الأمور ، وأصبح الحرام مباحا والحلال مفقودا ، وأصبحت تقول للشخص مثلا بأن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام قال بأن الراشي والمرتشي كلاهما في النار فيقول لك نعم ، ولكن . . ثم بعد" لكن" هاته ، يفعل ما يشاء ؛ وإذا سألته عما يفعل ، يقول لك بأن للضرورة أحكام ! أصبح الناس يحللون ويحرمون حسب أهواءهم ومصالحهم ، ولا يهمهم في ذلك قول رسول ، أو حكيم ، ولا حتى قول رب العالمين . 
كنا فقراء جدا ، غير أنه كان من الممكن أن نفعل المستحيل ، كما يفعل كل الناس في مثل هذه الحالات ، وكنا حتما سنتوفق في جمع النصف مليون سنتيم الذي قال عنه عمي ، فهذه فرصة لن تتكرر ؛ لكن مبادئي لن تسمح لي أبدا أن أدفع مالا من أجل الحصول على وظيفة ! إني أفضل أن أعيش عمري كله تحت وطأة البطالة ، ولن أكون أبدا راشيا ! 
مر على هذا الحدث شهور عدة أرسلت خلالها طلبات عمل أخرى إلى معظم الشركات الموجودة بالمدينة ، مصحوبة بسيرتي الذاتية ؛ لقد كنت مجازا في الأدب الفرنسي ، وكنت أتوفر كذلك على دبلوم في المحاسبة كنت قد حصلت عليه من خلال تكويني لمدة سنتين بإحدى المدارس الليلية المتخصصة في ذلك. لم أمل من إرسال الطلبات ، ولم أفقد الأمل في الله عز وجل الذي قال لنا بأنه قريب يجيب دعوة الداعي منا إذا دعاه. وذات يوم ، كان ذلك حوالي العاشرة صباحا ، استيقضت على صوت أمي التي كانت تناديني من المطبخ وتطلب مني أن أجيب ساعي البريد الذي أتاني برسالة. ياالله ! هاهي إحدى الشركات تطلب مني الحضور فورا من أجل مايسمى بمقابلة عمل. كدت أطير من الفرح ! هذه ، على فكرة أول مقابلة من هذا النوع أجريها في حياتي ! 
لقد مرت المقابلة على الوجه الذي كنت أتمناه ! لقد كان مدير شؤون الموظفين وشخص آخر أظنه نائب السيد المدير يبتسمان في هدوء ، مما جعلني أفهم أنهما كانا راضيين عني من خلال أجوبتي على أسئلتهما إلي. اه ، لم أكن مخطئا في تقديري للأشياء ! لقد كنت حسب رأيهما الشخص المناسب للوظيفة المعروضة. سأصبح مكلفا بمصلحة الدعاوى القضائية والمنازعات الضريبية لدى المحاكم. سأبدأ العمل بعد يومين. الحمد لله ! لم أرش أحدا ، ولم أغضب الله بإقدامي على فعل شيء كان هو قد حرمه بيننا !
مرت ثمانية أشهر أبليت فيها البلاء الحسن. كانت كل التقارير التي أرفعها للإدارة تشد إليها الإنتباه ، وكانت تدخلاتي لدى المحاكم تحضى باهتمام بالغ ، أضف إلى ذلك أنني كنت أكسب كل القضايا المتنازع عليها. لقد استفادت الشركة كثيرا من خدماتي ! 
في صباح أحد أيام شهر يونيو ، طلب مني السيد المدير أن ألحق به في مكتبه فور عودتي من المحكمة. وكان كذلك. طرقت الباب ففتحت لي السكرتيرة الخاصة ودعتني إلى الدخول ، وقال هو والإبتسامة تعلو ثغره :
- تفضل السيد حميد ، اجلس ! 
كنت مسرورا جدا لأني كنت أعرف مسبقا أنه سيشيد بعملي ، لكنه قال لي شيئا آخر لم أكن أتوقعه ! قال ، وهو يخرج ورقة من درج مكتبه ويناولني إياها :
- وقع هنا من فضلك !
وقعت دون أن أسأل. أخذ مني الورقة ، ثم ختم عليها بختم الإدارة ، بعد ذلك وقع في المكان المخصص له وأعاد إلي الورقة وهو يقول ، ودون أن تفارق الإبتسامة فاهه :
- لقد أنهيت الدورة التدريبية بنجاح باهر ، واليوم يتم رسميا تعيينك بالشركة لتصبح أحد أطرها الفعالة.
لم أدر ماأفعل ! كنت أحس بأن قلبي سيتوقف عن النبض من شدة الفرح ! أضاف السيد المدير ، في غفلة مني :
- أنت في إجازة لمدة عشرين يوما ابتداء من الآن. لقد تعبت من العمل ، فاذهب لترتاح وتعود إلينا بأفكار جديدة ! 
كنت أستعد للوقوف ، فأضاف : 
- لا تنس أن تذهب فورا إلى مكتب الحسابات ، بالطابق السفلي ؛ أرهم ورقة تعيينك هاته وانتظر قليلا ، فسيعطونك شيكا بمبلغ ثلاثين ألف درهم ستصرفه في بنك المغرب. هذا المبلغ هو نظير مستحقاتك خلال هذه المدة التي قضيتها في العمل بالشركة. أما مرتبك الشهري فهو يعادل ستة آلاف درهم قابلة للزيادة خلال كل سنة. ستجد هذا كله في ورقة التعيين . حظ سعيد ! 
يالفرحتي وفرحة عائلتي ! لقد أخبرتهم فقط عن تعييني رسميا بالشركة ، ولم أقل لهم بعد شيئا عن الشيك ، وعن مرتبي الشهري. قالت أمي وهي في غاية السرور بأننا سنقيم مأذبة غذاء فاخرة ، وسندعو كل الأهل والأحباب ، لكنها صمتت فجأة وقد بدا على محياها علامات حزن شديد ، لتقول بعد ذلك بقليل " لقد أنستني الفرحة حقيقة الأمور ! فأين سيجلس هؤلاء المدعوين ، والذين سيفوق عددهم العشرين !" 
لقد كنا نعيش كلنا ، أبي أمي أختي وأنا في غرفة واحدة ، وهي الغرفة التي شهدت ولادتي منذ ثلاثين سنة قد خلت ، ثم ولادة أختي ثلاث سنوات من بعدي. كانت أمي المسكينة تدرف الدموع في صمت ، وهي تتحسر على كوننا لن نستطيع دعوة أحد ، وبالتالي لن يكون هناك لا مأذبة غذاء ، ولا فرح ، ولا أي شيء من هذا القبيل !
هاأنذا أقوم من مكاني لأقول ، وأنا أمسح دموع أمي وأقبل وجنتيها :
- بل سيكون هناك فرح، وسيأتي الناس ليصادفوا ، حتى ولو فاق عددهم العشرين فردا كل عبارات الترحيب ، وسيجدون صالونا كبيرا يشملهم كلهم ، وستكونون أنتم في قمة السعادة ، بلباس فاخر ، ورائحة عطر تفوح منكم كلكم على بعد أمتار ! 
كانت أمي حزينة جدا ، لكنها قالت ، وهي تسعى جاهدة للإبتسامة في وجهي : أكثر شيء يعجبني فيك هي أحلامك الوردية ! 
وقالت أختي ، وقد اغرورقت عيناها دموعا : دعيه يحلم ياأمي ، فليس لنا سوى الحلم !
- لا ، أختي الحبيبة ، ليس هذا بحلم ! سوف نرحل من هنا إن شاء الله خلال يومين أو ثلاثة ، على أكبر تقدير ، وسوف نسكن بيتا آخر به عدة غرف ، وصالون كبير جدا ، وبه كذلك مطبخ كبير ، وغرفة دش . . 
انفجرت أمي ضاحكة ، وقال أبي : مابك ياولدي ؟ هل أعطوك شرابا مسكرا في الشركة ، أم ماذا ؟
- لا ، ياأبتي ؛ بل أعطوني شيكا !
- شيكا ؟
- نعم ! وسأذهب بعد قليل إلى بنك المغرب لأصرفه ، وآتيكم بمبلغ ثلاثين ألف درهم !
لم يرد أحد أن يصدقني ! قالت أختي وهي منفعلة :
- كفاك مزاحا ياأخي ، فالظرف لايسمح بذلك !
- أنا لا أمزح !
- لا ، إنك تمزح كعادتك ، ولن أصدقك بالطبع ! 
- لا ، بل صدقي ! وهاهو الشيك لتتأكدي ، بل لتتأكدوا كلكم من صحة كلامي ! 
خيم صمت رهيب على الجميع، وغاب الكلام، وجاءت دموع الفرح لتملأ كل المقل ! يالها من سعادة ، تلك التي أصبحنا نشعر بها الآن ، وياليتها تدوم !
كان كل شيء كما تخيلته ! بيت واسع الأرجاء ، به ثلاث غرف : غرفة نوم لأبي وأمي ، غرفة لأختي ، غرفة لي ، صالون كبير جدا ، مطبخ كبير ، غرفة دش . . لقد تغير كل شيء ، وأصبحنا نحيا حياة كريمة. وداعا للفقر ! وداعا للحرمان !
عدت إلى العمل وأنا في غاية النشاط ؛ كنت أشعر وكأني أولد من جديد ! وبدأت أحلم ، كباقي الشباب ذلك الحلم المشروع ، وهو أن تكون لي زوجة،ويكون لي أبناء ؛ ويكون لي بالأخص وجود في هذه الدنيا الطويلة العريضة ! لكن، وكما يقال، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وليس كل مايتمناه المرء يدركه.
إيه ، يادنيا ! لقد وقع مالم يكن في الحسبان ، وأنا الآن أوجد بالسجن ! نعم ، بالسجن ! ولمدة ثلاث سنوات ! مع دفع غرامة مالية قدرها أربعون ألف درهم ! لاتستغرب الأشياء في هذا الوطن العزيز ، وصدق كل شيء ! صدق إن قيل لك مثلا بأن رجلا يزني مع زوجة أعز أصدقائه في وضح النهار ، والناس صيام ، وأن شيخا يغتصب طفلة عمرها سنتين أو ثلاثة ، وأن أما تهجر أبناءها لتعيش مع عشيقها، وأن مبادئ شخص مثلي تودعه السجن ! نعم ، السجن ! ماذا جرى وكيف جرى ، أحكي لكم ! 
عدت إلى العمل ، وبعد مضي عشرة أيام تقريبا ، جاء السيد نائب المدير ليزورني في مكتبي ، ويشرب معي قهوة. كم أسعدني ذلك ! تباذلنا بعض النكث ، وبعض الحكايات ، وفي لحظة قال لي " أنت ولد ظريف جدا ، وذكي ؛ وأنا أريد أن أخاطب فيك ذكاءك ، لأني أريد أن أقول لك شيئا ، وأطلب منك ألا تبوح به لأحد في الشركة ! " طلبت منه أن يقول مايريده ، وأعطيته وعدا على أن أحفظ سره ، ولن أطلع عليه أحدا.
ياليته لم يقل لي شيئا ! ياليته اختار شخصا آخر ليعرض عليه ماسيعرضه علي ! لاحول ولا قوة إلا بالله ! في الوقت الذي بدأت أومن فيه بأن المصائب قد أقلعت على أن تدق بابي ، هاأنذا أفاجأ بأكبر مصيبة تحل بي ، وكان هذا الشخص هو مصدرها ! طلب مني ، وبصريح العبارة أن أتظاهر بالعجز عن الدفاع عن مصلحة الشركة ، في الجلسة المقبلة ، على أن يعطيني نظير هذه الخدمة مايقدر بخمسة ملايين سنتيم كرشوة ، لأني سأجعل الشركة تخسر أكثر من مائة مليون سنتيم سيستفيد منها هو ونائب مدير شركة أخرى ، أعني الشركة التي يوجد بها خصومنا ، وهي شركة تصدير واستيراد كذلك. رفضت بالطبع هذا العرض ، موضحا للسيد نائب المدير أني شخص ذو مبادئ، وأني لن أقوم أبدا بغدر أصحاب الشركة التي أعمل بها وغشهم ، فأجعلهم بخسرون كل هاته الملايين مقابل رشوة منه. ابتسم ابتسامة عريضة وقال لي ، وهو يشيد بأخلاقي بأني كبرت في نظره ، فمثلي قل نظيره في هذا الزمان ! 
عاد في الغد ، وشرب معي قهوة وطلب مني أن أنسى ماقاله لي.لقد صرح أمامي ، وهو يقسم بالله العظيم ثلاثا أنه في غاية الندم على ماكان ينوي القيام به ، وأنه لولا تأثير نائب مدير شركة خصومنا عليه ، لما فكر لحظة في محاولة ارتكاب هذا الفعل الدنيء ، وأنه أنهى كل علاقة له بهذا الشخص الذي أصبح يكرهه. صدقته بالطبع. أصبحنا شبه أصدقاء. كان يحترمني جدا ! 
بعد مرور أقل من عشرين يوما ، تلقيت استدعاء من المحكمة ، دون أن أعرف سبب ذلك ؛ وفي اليوم الموالي ، كنت على الساعة التاسعة صباحا بقاعة الجلسات ، أمام القاضي الذي قال لي بأني متهم بتحويل مايربو عن أربعين مليون سنتيم من أموال الشركة التي أعمل بها لصالحي. كان يوجد بالقاعة محاميان تابعان للشركة للدفاع عن مصالحها ، واللذان صرحا تباعا على أنهما قاما بمجهودات جبارة ومضنية لاستعادة الأموال المختلسة ، والتي كانت توجد في حسابي بالبنك. 
اقتادوني فور النطق بالحكم إلى السجن. هاهو السيد نائب المدير ، والذي كان يوجد بين الحاضرين بالقاعة يقترب مني ويهمس في أذني " أنا الذي دبرت لك هذه المكيدة ، فأرني كيف ستنقدك مبادؤك مما أنت فيه ؛ ياغبي ! "

  مصطفى دهور . أستاذ اللغة الفرنسية/
الدار البيضاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فن البوستات كمال العطيوى