قصة قصيرة
بقلم: صلاح منير
امرأة في دوامة
في
يوم شتوي شديد البرودة وفي تمام السادسة صباحا استيقظت "منى" تتمطى
وتتثاءب وهي تفرك عينيها وتقاوم النعاس وتحاول أن تفيق, فكم كان الأمس يوما
مجهدا, ثم أيقظت زوجها بعد عناء. وكان الجو شديد البرود وكانت تشعر بالدفء
تحت الغطاء لكنها بعد دقائق من التردد تشجعت ورفعت الغطاء وذهبت الي غرفة
صغارها الأربعة. وبالطبع كان من الصعب على صغارها ترك فراشهم الدافئ في
أيام البرد القارص. لكنها قامت بايقاظ الصغار بعد محايلة وتدليل ولا غنى عن
ارتفاع الصوت مقابل عنادهم. فلابد أن يستعدوا للذهاب الى مدارسهم وكالعادة
قالت لهم: ان لم تستيقظوا فلن تخرجوا في عطلة نهاية الأسبوع لأي مكان.
فرد الجميع: حاضر يا ماما .. لقد أستيقظنا
وبعد
أن تأكدت من نهوض الأطفال جميعا من الفراش, ذهبت الي المطبخ وقامت باخراج
الخبز من الثلاجة, وملأت الغلاية بالماء وضغطت مفتاح تشغيل الغلاية. ثم
ذهبت الي الحمام وهي تنادي على أولادها وتطلب منهم الأستعداد للخروج, وبعد
أن أغتسلت خرجت من الحمام الي المطبخ لتعد افطار الأسرة, ووضعت الأفطار مع
أكواب الشاي بالحليب علي المائدة وهي تنادي كل بأسمه
قائلة: "الأفطار جاهز"
ثم
ذهبت الي غرفة الأولاد لتساعد طفليها الصغيرين في ارتداء ملابسهم. ثم خرج
الزوج مرتديا ملابسه وجلس مع الأطفال لتناول الأفطار, وذهبت هي لتكون أخر
فرد في الأسرة يرتدي ملابس الخروج وبعد أن ارتدت ملابسها خرجت من غرفتها
لترتشف رشفة من الشاي وتأخذ "ساندوتش" بيدها فالوقت قد قذف وليس هناك فسحة
أمامها للجلوس وتناول الأفطار كباقي أفراد الأسرة.
أستعدادا
للنزول حمل كل طفل حقيبة كتبه ثم نزل الجميع الي الشارع واتجهوا سيرا على
الأقدام الى الشارع الرئيسي حيث ودعها زوجها وتوجه الى عمله.
على
قارعة الطريق وقفت وصغارها في انتظار عربة "ميكروباص" لتقلهم الي المدارس,
وبعد عناء ركبت وصغارها العربة التي أقلتهم الى منطقة المدارس حيث قامت
بايصال كل طفل الي مدرسته واطمئنت على دخوله المدرسة. وبعد أن انتهت من
توصيل أخر طفلة الى مدرستها وقفت تنتظر عربة أخرى لتقلها الى عملها, وبعد
طول انتظار استقلت عربة أوصلتها الى العمل, ولم تسلم من تحرش بعض ضعاف
النفوس طوال تلك الرحلة. وقد وصلت الى العمل وكانت على مكتبها بعد موعدها
بدقائق قليلة فلم تسلم من بعض التأنيب من رئيستها في العمل فاعتذرت لها عن
التأخير وشرحت لها الموقف. فردت عليها رئيستها بصلف قائلة:
لا أريد منك أن تقصي عليا ما أسمعه منك كل يوم ولابد من الألتزام بمواعيد العمل.
كان
يوم عمل مرهق ككل الأيام فهي تعمل موثقة بالشهر العقاري. وقد انتهى يوم
العمل في الثانية ظهرا وغادرت مقر عملها وأستقلت عربة "ميكروباص" تقلها الى
مكان سكنها وعندما وصلت السيارة الى منطقة سكنها نزلت, وكالعادة أخذت رحلة
قصيرة على قدميها حتى تصل الى المنزل وأثناء السير قامت بالتسوق وشراء
مستلزمات اليوم لأسرتها وأيضا لم تسلم من تحرش بعض الرجال من كلاب الشوارع
في طريقها الى المنزل.
وصلت
منى الى شقتها في الطابق الرابع وهى مرهقة, ودخلت مباشرة الى المطبخ دون
خلع ملابسها لتجهيز طعام الغداء, فقامت بغسيل آواني وجبة الأفطار, وبدأت في
اعداد طعام الغداء.
انقضى
من الوقت ساعة ونصف, وحان موعد خروج الأطفال من المدارس فهرولت الى الشارع
مرة ثانية, ووقفت على قارعة الطريق لتستقل عربة توصلها الى منطقة المدارس
ولم تسلم من التحرش في "الميكروباص" أو حتى في الطريق وعندما وصلت الى
منطقة المدارس نزلت من العربة وجمعت أطفالها الأربعة من مدارسهم وهي سعيدة
بهم وهم سعداء بها وأنتظر الجميع على قارعة الطريق للحصول على أماكن في
عربة تقلهم للمنزل, ولأن الجو شديد البرودة والأمطار غزيزة وقفت بهم تحت
شرفة أحد المباني لكن الأمطار غزيزة جدا حتى أنها كانت تصل اليهم فأخذت
تخبئ صغارها في طيات معطفها لتحميهم من الأمطار, وبعد فترة طويلة من
الأنتظار وصلت عربة بها أماكن لها ولأطفالها, وأستقلت وصغارها العربة
لتأخذهم في الرحلة اليومية الي الحي الذي يقطنون به. وأثناء الرحلة من
منطقة المدارس الى المنزل أخذت تستفسر من أولادها عما حدث معهم في اليوم
الدراسي وتعرف منهم ما عليهم من الواجبات المدرسية الواجب انهاؤها بالمنزل.
وصل
"الميكروباص" الي الشارع الرئيسي بالحي الذي يقطنون به ونزلت وأطفالها من
العربة وساروا جميعا على أقدامهم في الطريق الى منزلهم ولم تسلم طوال
الطريق من تحرش بعض الذئاب حتى أن الفاظهم السيئة كانت تصل الى مسامع
صغارها.
وفي
لحظة خاطفة ودون سابق انذار انفك أصغر أطفالها عن يدها وجرى في الشارع
فصدمه شاب بدراجة نارية فسقط الطفل على الأرض, وهرب الشاب مسرعا بدراجته.
فتصرخ الأم وهي ترى طفلها يبكي بشدة وتحمل صغيرها وهي ترتعد من الخوف وتهرع
به وبيدها أطفالها الأخرين الى العيادة الموجودة بالحي.
قام
الطبيب بالكشف على الصغير وبفحص جسده لم يجد الا بعض الجروح والكدمات
نتيجة الأرتطام بالأرض, وبعد أن ضمد الطبيب الجراح بالمطهرات والشاش قال
لها: يجب أن تذهبي به غدا الى المستشفى لعمل أشعة للتأكد من عدم وجود كسور
داخلية أو أي شئ داخلي غير ظاهر. ثم خرجت حاملة الطفل ماسكة بأخوته بيدها
الأخرى وهي تتمتم
قائلة: "يارب أستر يارب"
عادت
بأطفالها الى المنزل, وصعد الجميع السلم وهي تحمل صغيرها المصاب حتى وصلوا
الى شقتهم في الطابق الرابع, فطلبت من الطفلين الكبيرين تغير ملابسهم
وقامت هى بتغيير ملابس الطفلين الصغيرين,ثم ذهبت الى المطبخ لتكمل اعداد
طعام الغداء, وعند وصول زوجها عائد من عمله استقبلته, ثم دخلت وراءه غرفة
النوم وقصت عليه وهي ترتعش ما حدث لصغيرهما فقام بتأنيبها بصوت عال واتهمها
بالأهمال
قائلا: كيف تكوني مهملة الى هذا الحد؟ يجب عليك القيام بمسؤليتك والأنتباه لصغارنا أكثر من ذلك.
فما
كان منها الا أن أنسحبت في هدوء وعادت الى المطبخ وقامت بتحضير الطعام وهي
تبكي, ثم قامت بتحضير مائدة الغداء ودعت الجميع للجلوس على مائدة الطعام
لتناول الغداء وجلست وهي تداري دموعها عن صغارها, ولم تسلم رأسها من الصخب
الذي يحدثه صغارها مع بعضهم البعض أثناء تناول الطعام, وبعد أن انتهى
الجميع من تناول الغداء قامت برفع الأواني من على المائدة واتجهت الى
المطبخ وقامت بغسل الأواني وهي تبكي, ثم قامت باعداد فنجان من القهوة
لزوجها وقدمته له.
وفي
تمام الرابعة والنصف جاء موعد ذهابها لعملها للفترة الثانية فقامت بتوديع
الزوج وهي تشعر بالقهر , ثم قبلت أطفالها وخرجت لتعيد رحلة الذهاب الى مقر
عملها. ولم تسلم في الطريق من خفافيش التحرش.
في
تمام الخامسة وصلت الى مكتبها, وبعد ساعتين من العمل المرهق وفي تمام
السابعة مساء غادرت مقر عملها لتعيد رحلة العودة الى منزلها. ولم تسلم أيضا
في رحلة العودة من تحرش نعاج الرجال. ثم صعدت السلم الى شقتها في الطابق
الرابع وهي منهكة, وفتحت باب الشقة وأستقبلها أطفالها بفرحة عارمة أدخلت
عليها السرور وخففت من شعورها بالتعب وعناء اليوم. ثم طلبت من زوجها أن
يذهبا معا بصغيرهما لعمل أشعة له فأجاب بالموافقة بامتعاض واصتحبها بالطفل
الى المستشفي. وظل الزوج يؤنبها طوال الطريق ويلومها على ما حدث للطفل وهي
تتوسل اليه
قائلة: كفا أرحمني فيكفيني تألمي لما حدث لأبني.
لكنه لم يأبه لما تقول وأستمر في تأنيبه لها حتى في المستشفى لم تسلم من تعقيباته المؤلمة.
حتى
بعد أن اطمأنا على الصغير لم يتوقف الزوج في طريق العودة عن لهجة التأنيب,
وحين وصلا الى شقتيهما دخلت منى غرفتها وقامت بتغير ملابسها وخرجت فجمعت
أطفالها على المائدة لتراجع معهم واجباتهم المدرسية وتطمئن على حالتهم
الدراسية, وبعد أن أنهت المراجعة مع أطفالها دخلت الي المطبخ لتعد لأسرتها
وجبة العشاء, ثم قامت باعداد المائدة ودعت الجميع لتناول العشاء. وبعد
تناول العشاء كالمعتاد وسط صخب الصغار الذي لا ينتهي, قامت بعدها لتعد
لصغارها حقائب الكتب لليوم التالي, ثم بذلت جهد كبير كالعادة لتقنعهم
بالخلود الى النوم حتى يستطيعوا الاستيقاذ مبكرا في اليوم الدراسي التالي,
ولم تتركهم حتى اطمأنت أنهم قد غطوا في النوم, ثم ذهبت الى غرفة الطعام
لرفع آواني العشاء ودخلت المطبخ وقامت بغسيل الآواني, ثم قامت باخراج
الملابس من غسالة الملابس وقامت بنشرها على حبل الغسيل في شرفة المنزل.
عادت
منى بعد ذلك الى الداخل ورفعت سماعة الهاتف وأتصلت بمنزل العائلة لتطمئن
على والدتها المسنة فردت عليها أختها الصغيرة الغير متزوجة والمقيمة مع
والدتها وقامت بمعاتبتها بشدة وقالت لها: لما لا تأتي لتري والدتك بنفسك,
فلم نري وجهك منذ يوم الجمعة الماضي.
فشرحت لها مدى انشغالها وقصت عليها ما حدث لطفلها الصغير.
وقالت منى : يجب أن تعذروني.
لكن أختها الصغرى لم تأبه بكلامها وأسترسلت في توبيخها – فما كان منها الا أن تحملت اساءتها.
وقالت
لها: أريد أن أكلم أمي, وبعد أن اطمأنت على والدتها قامت بأخذ حمام دافئ
يزيل بعض ارهاق اليوم, ثم دخلت غرفة النوم فوجدت زوجها يغط في النوم فحمدت
الله على ذلك, وألقت بجسدها على الفراش وهي تأن من الانهاك وتشعر بغصة من
تأنيب الزوج الدائم لها وحديث أختها الصغرى وكان جسدها منهك من هموم اليوم
ورأسها مثقلة بالتفكير في هموم الغد الذي لن يختلف عن اليوم وستتكرر فيه
نفس الهموم التي تعيشها على مدار الأيام. وهى صابرة لأجل أسرتها, وتقول
محدثة نفسها : متي ستنتهي تلك الدوامة؟.
تمت
بقلم
صلاح منير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق