أعطني فرصة
تتجاوز الساعة الآن في مطار القاهرة الدولي السابعة مساءً
تقع أعيننا في صالة الإنتظار على تلك السيدة التي تجاوزت الخمسين من عمرها وعلى وجهها علامات الترقب والنظرات الدقيقة التي تلتفت يميناً ويساراً بحثاً عن شيءٍ ما
فجأة يظهر لنا هذا الشاب الوسيم الذي أوشك على الثلاثين من عمره بقميصه الأبيض وبنطلونه الجينز الأسود وشعره المنمق والذي يبدو من عينيه انه لم ينم جيداً
بمجرد ان تقع أعين السيدة عليه تهرول إليه وهي في حالةٍ من البكاء والشاب يحتضنها بحرارة شديدة ويقول لها:وحشتيني يا أمي ووحشني منكِ كل شيء.حضنك حنيتك طعامك ضحكتك كل شيء
الأم بصوتٍ مختنق من أثر البكاء:وانت أيضا يا حسام انت عنقودي الصغير الذي كنت أحترق من أجله خلال شهور السفر
حسام بضحكة هادئة:دعينا من الكلام حالياً وسوف نتكلم كثيراً بعد وصولنا إلى البيت
يركب الإثنان سيارة أُجرة ويصلان إلى شقتهما وقد دخل حسام غرفته ليقوم بتغيير ملابسه وتفريغ حقائبه بينما اتجهت الأم بعد تغير ملابسها إلى المطبخ حتى تقوم بتسخين الطعام الذي يحبه حسام
نُصبت المائدة ووضعت عليها أطباق الطعام وجاء حسام بعد ان أخذ حماماً وجلس يلتهم الطعام بنهم شديد ويقول:الله يا أمي وكأنني لم أتذوق الطعام منذ مدة طويلة خلال سنوات الغربة وأنا أعيش على أكل المطاعم
الأم بنظرات حانية:وهذا ما يجعلني أقول لك بأنني لن أتركك في تلك الإجازة إلا ومعك زوجتك
حسام ضاحكاً:زوجتي مرة واحدة! إجازتي قصيرة والأمر يحتاج إلى بحث يا أمي لكي أعثر على بنت الحلال
الأم بتودد شديد:ولا بحث ولا شيء وانت تعرف مدى حرصي عليك ولهذا ثق في اختياري العروس موجودة وتسكن في الدور الذي يلينا فتاة في غاية الأدب تسمى ناهد الشرقاوي عرفت أمها جيداً بعد شرائهم للشقة من عدة أشهر والفتاة في غاية الخُلق والثقافة وكل شيء
حسام والطعام في فمه:وماذا عن الجمال يا أمي
الأم:ببعض التردد:أنا أراها جميلة والمؤكد أنك ستراها هكذا سأتركك اليوم وغدا حتى تنتهى من زيارة أصدقائك ثم نصعد إليهم بحجة زيارتهم وترى الفتاة ثم تقول رأيك
يفرغ حسام من الطعام ثم يستعرض الهدايا التي قد أتى بها إلى أمه ثم يدخل غرفته ويستغرق في نوم عميق ولا يستيقظ إلا قبيل صلاة الظهربعد تناول الإفطار ومشاهدة بعض برامج التلفاز وبعض الأحاديث مع أمه عن اخوته وكيف تمضي حياتهم في زيجاتهم يخرج من البيت للقاء أصدقائه بعد ان اتصل بهم هاتفياً وقرروا جميعا ان يتقابلوا في الكافيه الذي تعودوا الجلوس فيه منذ سنوات الدراسة بينما كانت الأم في حديث ودي مع جارتها أم العروس وقد اتفقت معها على ساعة الزيارة وأومأت لها من بعيد ان الزيارة من أجل رؤية ابنتها ناهد
تخبر الجارة ابنتها وزوجها بموعد الزيارة بينما يعود حسام إلى البيت وتخبره أمه بأن يستعد كي يصعد معها بعد مغرب الغد لرؤية ناهد
كان حسام لا يبال بالأمر كثيرا خاصة بعد ان حدثه أصدقائه عن بعض الزميلات في الجامعة وقد رشحوا له أكثر من واحدة لكنه أحب ان يرضي أمه بالصعود معها لرؤية ناهد
حان موعد صعود حسان وأمه إلى شقة الجيران وقد حرص حسان على أناقته من خلال ملابسه المتناسقة وشعره المهندم ورائحته العطرة بينما كانت أسرة ناهد على أتم استعداد لاستقبالهم
يدق جرس الباب وتدخل الأم وحسام وسط حفاوة شديد من الجارة وزوجها وبين عبارات الترحيب والحديث عن بعض مشكلات العمارة
كان حسام يترقب ولوج العروس إليهم حيث كانت في المطبخ تعد بعض العصائر والحلويات التي تم شرائها خصيصاً لهم
تخرج ناهد إليهم حاملة صنية الحلويات والعصائر فتلقي عليهم السلام بوجه ينظر في الأرض
ينكمش وجه حسام وتخيم عليه لحظات من الصمت بينما ظلت الأم تلقي بعض الجمل التي تشيد بناهد وكأنها شعرت بشيء ما حدث لحسام فأرادت تجميلها أمامه لكن حسام بعد ان تحدث ببعض العبارات العامة والتي لم يوجه منها عبارة واحدة لناهد طلب الإذن بالإنصراف بحجة انه على موعد مع شخص سيساعده في تجديد تصريح عمله
كانت ناهد ذات قامة قصيرة وبشرة خمرية ميزتها تلك الوحمة على خدها الأيسر والتي تبدو أثر حرق قديم في وجهها
كانت صامته حيث لم تجد من يخرجها عن صمتها المطبق ولو بتوجيه بعض الأسئلة لها
عادت الأم وحسام إلى شقتهما وهما في حالة سكوت حتى استقر حسام على الأريكة التي تقع إلى جانب الصالون وجلست أمه على الأريكة المقابلة وظلت ترمقه بنظرات أتبعتها باستفهام:ماذا قلت في ناهد يا حسام؟
يأخذ حسام نفَساً عميقاً ثم يصمت برهة فيقول:أقول ماذا سامحك الله يا أمي كنت في غاية الخجل والحرج كيف أقابل بهذه زملائي وزوجاتهم أين الجمال الذي تتحدثين عنه
الأم بتودد شديد:يا ابني صدقني ليس الجمال جمال الوجه اجلس معها أكثر من مرة ربما ستجد فيها ما يجعلك ترغبها وتحبها
حسام بضيق شديد وقد هم من على أريكته:هذا كلام مستهلك لا يصلح معي أرجوك يا أمي أتركي لي هذا الأمر وسوف أبحث بنفسي
ظل حسام خلال أيام أجازته يبحث عن عروس من خلال زميلات الدراسة أو بعض معارف أصدقائه لكنه كان ينفر سريعاً منهم على الفور في الوقت الذي إلتزمت فيه أسرة ناهد الصمت ولم تعلق على زيارة حسام أو الأثر الذي ترتب عليها
أوشكت الأجازة على الإنتهاء بعد ان يأس حسام وأمه من العثور على العروس فأخذ يجمع حقائبه ويلملم متعلقاته استعدادا للسفر وقد وعد أمه بأن يتزوج في الأجازة القادمة
يعود حسام إلى إمارة دُبي منشغلاً في عمله حتى حان وقت راحته فأخذ ينظر في الهاتف على حسابه الخاص بالفيسبوك فوجد طلب صداقه بإسم أمه فلم يصدق نفسه وقام بالإتصال بها على الفور قائلاً بضحكة ساخرة:هل يعقل هذا يا أمي عرفت طريق الفيسبوك!
الأم :ولماذا لا أعرفه هل تظنني جاهلة هل نسيت ان معي شهادة ثانوية
حسام يواصل سخريته:لم أنس ولكن آخر شيء أتوقعه ان أجدك على الفيس
الأم:بارك الله فيها ناهد هي من صنعت لي الحساب كي أتواصل به معك
حسام ضاحكاً:أخشى عليك من الإنحراف والمعاكسات بالعموم لنا حديث آخر فقد انتهت فترة راحتي
يعود حسام إلى مزاولة عمله حتى حان وقت انصرافه فعاد إلى منزله وغلبه النوم بضعة ساعات ثم استيقظ متناولاً الهاتف لينظر قليلاً في حسابه على الفيس وهنا لاح له اسم ناهد الشرقاوي في قائمة الأصدقاء المقترحين فأخذه الفضول لولوج صفحتها فوقعت عينه على تلك الكلمات التي كتبتها ناهد وقامت بالتوقيع تحتها باسمها.
نحن في تلك الحياة أشبه براكب قطار يجلس وسط زحام ثم يحاول ان يتخير جليسه الذي يجد الراحة معه يتبادلان الحديث حتى يهون عليه سكة السفر، لكن المؤكد ان أحدهما سينزل في محطة غير الأخر وربما نزلا معاً ،لكن في النهاية القطار سيصل إلى محطته الأخيرة بعد ان عاش الاثنان وقتاً جميلاً تمنيا فيه ألا يصل القطار سريعاً حتى يسعدا بتلك اللحظات أكثر وأكثر.
لم يجد حسام نفسه بعد قراءة تلك الكلمات إلا وأسرع إلى مراسلتها قائلاً: السلام عليكم أشكرك على عمل حساب لأمي كي أتواصل معها.
بضعة دقائق وتقرأ ناهد رسالته فتكتب له قائلة: وعليكم السلام لا شكرعلى واجب ،أنا أحبها كثيرا
حسام: كلماتك جميلة ورقيقة ومعبرة التي كتبتيها على صفحتك
ناهد أشكرك على تلك المجاملة هي مجرد خواطر عابرة
حسام: يبدو انك تحبي القراءة؟
ناهد: نعم بنهم شديد أحب الأدب الروسي والإنجليزي وبعضاً من الأدب المصري
حسام: كثير من الفتيات لا يهتمون بالثقافة بل معظمهم يهتم بالأزياء أو الموضة أو المطبخ أو يشغله العمل عن أي شيء آخر
ناهد: بالعكس هناك فتيات كثرعلى قدرعالٍ من الثقافة وأرى ان الثقافة هي السلاح الأقوى للفتاة حيث تكسر لها حالة الملل أو لزوجها ان كان مثلها يعشق الثقافة فالحوار والأخذ والرد يصنع حالة من المتعة الشخصية.
حسام: هذا صحيح فالكثير بعد الزواج يعاني من حالة الخرس الزوجي.
ناهد: هذا صحيح لأنهم ببساطة يحصرون جميع كلامهم في زاوية معينة كهموم البيت أو مشكلات الأولاد وينسى الاثنان أنفسهم والرباط الذي يجمعهم والذي هو في حالة من الاحتياج للتقوية كل فترة
ظل حسام يكتب طويلاً مع ناهد حتى استأذنت منه وأغلقت معه الحوار وتركته يحدث نفسه قائلاً: ما شاء الله لم أكن أعلم أنها بكل تلك الثقافة.
في اليوم التالي وبعد أن يعود حسام من عمله يتناول هاتفه ليرى ما ستكتبه ناهد هذا اليوم فلفت انتباهه تلك الكلمات التي قامت بالتوقيع تحتها باسمها أيضا:
الحب ليس سطوراً تكتب على ورق
الحب ليس شعوراً أو سهاماً تنطلق
الحب شيءٌ يسير في الدماء ويلتصق
الحب عهدٌ ورباطٌ لا يخشى من يتمسك به ان يختنق
هنا يعود حسام لمراسلة ناهد قائلاً: جميلة تلك الكلمات التي كتبتيها عن الحب يبدو ان لك تجربة فيه
ناهد أشكرك بالعكس ليست لي أي تجربة وليس كل شاعر أو كاتب كتب عنه أحب بل هي مشاعر وغريزة لا تطلب في غالب الأحيان طرف آخر.
حسام: لكن الحب لكي يكون صادقاً لابد من التفاعل بين شخصين.
ناهد: ليس شرطاً فجبران خليل جبران قد عشق مي زياده دون ان يراها وكانت بينهما مجرد مراسلات ورقية.
ظل حسام عدة أيام في حالة من التفكير بناهد ينتظر ان ينتهي من عمله سريعاً ثم يعود لمنزله حتى يكتب معها بعد ان يرى ما تكتبه.
لكن في يومٍ من الأيام ظل يترقب حسام ظهور ناهد أو الرد على رسالته فلم يجدها فأخذ بالاتصال بأمه وظل يتبادل معها بعض الكلمات حتى قالت له متلهفة: حسام سأغلق معك السكة الأن فأنا سأصعد إلى جيراننا لأن ابنتهم ناهد سيتقدم إليها عريس اليوم وقد دعوني لحضور المقابلة.
ترتعش يد حسام ويتلعثم لسانه وقد أغلقت أمه الخط معه وقد تصبب عرقاً ووضع يده على رأسه فشعر ان كل شيء في الغرفة يضيق عليه فهم بالخروج وظل يفكر ماذا يصنع؟
وصل حسام إلى قرار حاسم وهو ان يعود لمصر سريعاً حتى يتقدم لناهد قبل ان تتخذ أسرتها قراراً في شأن العريس المتقدم لها.
كانت الأم بداخل شقتها تقوم ببعض الأعمال ثم سمعت دقات جرس متوالية فهمت بفتح الباب فتفاجأت بحسام أمامها فلم تصدق نفسها ونظرت إليه بفزع شديد قائلة: حبيبي ماذا حدث حتى تعود هكذا دون ان تخبرني
حسام بلهفة كبيرة: أمي أنا أحب ناهد وأريد ان اتزوجها أرجوك اصعدي الأن لأسرتها وقولي لهم هذا قبل ان يوافقوا على الشاب الأخر.
الأم بحالة من الدهشة والغرابة: ماذا تقول يا ابني كانت أمامك وظللت ألح عليك وقلت لك أعطيها فرصة ربما ستجد فيها ما يجعلك تحبها.
حسام بوجه أقرب للبكاء: نعم يا أمي وجدت فيها ما جعلني أحبها أرجوك سوف يحدث لي شيء ان ضاعت من يدي.
تهرول الأم ومعها حسام نحو شقة ناهد ويخبران الأسرة برغبتهما في طلب ناهد لكن الأب استدرك قائلاً: هذا شرف لنا لكن يا ابني هي كانت أمامك قبل هذا ونحن الأن في موقف حرج وبالعموم ليس الرأي رأينا ولكن رأي ناهد.
يطلب الأب من ناهد ان تجلس معهم وتبدي رأيها خاصة انها لم تزل في حالة من التفكير وهنا نظرت لحسام بخجل شديد: والله كنت أود ان أكون بجوارأمك التي أعتبرها أمي لكن عاطفتي نحو الأخر أكبر من كل شيء.
حسام والصدمة على وجهه يترجاها قائلاً: أرجوك ناهد أعطني فرصة ربما كنت أنا الخيار الصحيح
ناهد بعد برهة من الصمت: كانت الفرصة أمامك لكن انت لم تعطني الفرصة التي أعطاني إياها غيرك فكانت فرصة سعيدة لي وله.
د.محمود الذكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق