لم ياصديقي ؟!
كنا أطفالا صغارا ، أبناء حي واحد ، وكنا ندرس بنفس المدرسة الإبتدائية ، لكن كيف توطدت علاقتنا وأصبحنا فيما بعد أصدقاء ، هذا ما لن يستطيع أحد منا أن يذكره ! غير أن هناك أشياء لا يمكن أن ننساها نحن الإثنان ، أهمها هو أنني كنت متفوقا عليه في كل شيء : في الدراسة ، في اللعب ، وحتى في علاقاتنا العاطفية مع البنات ، عندما أصبحنا في سن المراهقة ! أنا كنت ودودا جدا مع الفتيات ، بينما كان هو شرسا ووقحا ، ولا أذكر أنه عمر أكثر من أسبوع مع فتاة ! كان هذا في حد ذاته شيئا يغيظه ويسمم أفكاره ، فيقول بأن الفتيات يستحقن الدبح والسلخ لما يتصفن به من أنانية وغطرسة ، وكنت أنا أضحك من كلامه وأنعته بالمعقد ! كنت أقول له في كل مرة بأن الفتيات ينتمين إلى جنس غير جنسنا ، إنهن جنس لطيف ؛ ولكي نكسب صداقتهن ، يجب أن نتعامل معهن بلطف ! كان هذا الكلام لايعجبه ، فيرد غاضبا بأني أنافقهن ، وهن يعجبهن ذلك ، فأسميه أنا لطفا منهن ! كنت أعلم أنه لايدري مايقول في حالة الغضب ، وكنت أنتظر حتى يهدأ من روعه لأقول له بأني لاأنافقهن ، كما يعتقد بل أكون صادقا معهن في كلامي وفي مشاعري ، مما يجعلني قريبا من قلوبهن، فيحببنني ويجعلنني أبادلهن نفس الشعور.
انتقلنا من الإعدادي إلى الثانوي ، فبدأ يتضح جليا أن صديقي كان يعيش أزمة نفسية خانقة محورها الفتاة ؛ أو بالأحرى الجنس الآخر ، جنس النساء بصفة عامة. أصبحت حالته لاتسر عدوا ولا صديقا. كان كلما تعرف إلى فتاة ، من الثانوية التي كنا ندرس بها أو من الثانوية المجاورة إلا وتشاجر معها وربما صفعها بدون شعور ، بحجة أنها خائنة. كنت تجدني دائما أتودد إلى الفتيات المسكينات ، ضحايا عنفه وسوء معاملته لأطلب منهن المعذرة عوضا عنه ، وفي كل مرة ، كنت أفاجأ بالواحدة منهن ، وهي تبكي من ظلمه وقسوته لها وتقسم على أنه كان يسيء الظن بها ، وأن لاأساس من الصحة لما كان يقول في حقها !
أثار هذا فعلا استغرابي ! كيف وصل صديقي إلى هذه الحالة النفسية ؟ كيف أصبح ينعت الفتيات بالخائنات ، دون حجة أو دليل ؟ نعم ، هذا صحيح للأسف ، وليس من قبيل الصدف أن أسمع نفس الكلام من سناء مثلا ، أو إيمان ، أو مريم ، أو أخريات ! كان يرى كل من حوله خائنا.
وتمضي الأيام ، ويكشف كل يوم صديقي عما يخالج دواخله من حقد وغل تجاه الفتيات اللواتي لايتردد في نعتهن بالخائنات.
ذات مرة ، تعرف إلى إحدى الفتيات ، وبعد يومين أو ثلاثة ، قال لها بأنها لن تكون خير ممن سبقوها ، وأنها حتما ستخونه يوما ما. عارضته في الكلام ، وقالت له بأن هذا غير صحيح ، لكنه تشبت برأيه. تشبتت هي الأخرى كذلك برأيها ، وقالت له بأن الخيانة التي يتحدث عنها لا توجد إلا في خياله. كانت فتاة ذات شخصية قوية ، وكانت تعرف الشيء الكثير عن علاقاته السابقة بالفتيات. تعالت أصواتهما ، وتجمهر التلاميذ حولهما - كان ذلك في ساحة المدرسة ، أثناء فترة الإستراحة - وفي لحظة ، استفحل الأمر واضطرم الشر بينهما ، فقالت له " أنت مريض ، ويجب عليك أن ترى طبيبا نفسانيا ليعالجك ! "
ثارت نفسه واستطار غضبه ، ولم يكن يدري ماذا يفعل. أراد أن يصفعها ، لكنها قاومت ودفعته بكلتا يديها ، فأفقدته توازنه. تركها وانصرف ، وهو يلعن الدنيا وما فيها ، ويعد بدبح كل النساء لأنه يراهن كلهن خائنات ! لحقت به لأهدأ من روعه ، لكنه لم يأبه لوجودي واسترسل في الكلام ، وهو لايدري ما يقول ، ككل مرة يكون فيها تحت تأثير الغصب. هاهو ينطق بعد فترة بكلام غريب جدا ؛ كلام أذهلني فعلا ! قال ، وبصريح العبارة بأنه سيدبح كل النساء ، بما فيهن أمه !
ياإلاهي ، ماذا جرى لصديقي ؟ أمه !!
عدنا إلى الأقسام ، لكن صديقي غادر المؤسسة وهو يردد بأعلى صوته " كلهن خائنات . . كلهن خائنات . . "
ويأتي المساء . . ويشهد الحي الذي نقطن به كارثة غير مسبوقة . . ياللهول ! لقد وصل صديقي إلى قمة الغضب والإنفعال . . لقد فقد توازنه ، وتغلب الأنا عنده عن الأنا الأعلى، ففقد السيطرة على كل أفعاله . . هاهو الآن يدرم النار في منزلهم حيث كانت توجد أمه وأخواته ، ثم يرمي بنفسه من الطابق الثاني ، بغية وضع حد لحياته التي لم يصبح لها أدنى معنى عنده.
أصيب صديقي بجرح غائر في رأسه ، وكسر على مستوى العنق نقل على إثرهما إلى المستشفى. مرت ثلاثة أيام ولم بستفق من غيبوبته. كان يجب أن ننتظر اليوم الخامس أو السادس لنراه يفتح عينيه ، وينظر من حوله في هدوء تام. كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. طلب مني أن أدنو منه ، ثم قال بصوت خافت جدا " ماذا حصل لأمي ؟ " لم أرد أن أجبه، لكنه ألح علي فقلت له بأنها ترقد هي أيضا بالمستشفى ، وأن النيران قد أكلت كل وجهها. ابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول " الحمد لله ! لقد انتقمت منها لشرفي . . "
طلبت منه أن يصمت ، وألا يتكلم عن أمه على هذا النحو ، فقال لي ، وقد غمرت الدموع عينيه " أنت لاتعلم شيئا ياصديقي . . هذه المرأة دمرت حياتي . . "
هاهو يغمى عليه من جديد. كان يوجد بين الحياة والموت.
عدت في المساء لأراه. كان يجد صعوبة في الكلام ، لكنه كان مصرا ، رغم تعليمات الطبيب على أن يتكلم.
- كنت أشعر وكأن خنجرا مسموما قد نفد إلى أحشاءي وأصاب روح الشرف في نفسي ، وأنا أرى أمي في أحضان جارنا ، دون أن تعير أي اهتمام لوجودي . .
- أنت لا تدري ما تقول ، ومن الضروري ان تتوقف عن الكلام.
- لم أكن قد تجاوزت بعد السادسة من عمري . .
هاهو يغمى عليه من جديد ، لكن هذه المرة . .
الله أكبر . . الله اكبر . . إنا لله وإنا إليه راجعون. حقيقة الأسباب متعددة ، لكن الموت واحد.
لقد مات صديقي . . اه ، مات المسكين . . مات وقلبه يكاد ينفجر من الغيض والحزن والألم . . مات وهو يحمل هما من أكبر هموم هذه الدنيا.
سأبكيك كثيرا ياصديقي . . نعم كثيرا كثيرا . . ولن أنساك
ماحييت.
...........................................
انتقلنا من الإعدادي إلى الثانوي ، فبدأ يتضح جليا أن صديقي كان يعيش أزمة نفسية خانقة محورها الفتاة ؛ أو بالأحرى الجنس الآخر ، جنس النساء بصفة عامة. أصبحت حالته لاتسر عدوا ولا صديقا. كان كلما تعرف إلى فتاة ، من الثانوية التي كنا ندرس بها أو من الثانوية المجاورة إلا وتشاجر معها وربما صفعها بدون شعور ، بحجة أنها خائنة. كنت تجدني دائما أتودد إلى الفتيات المسكينات ، ضحايا عنفه وسوء معاملته لأطلب منهن المعذرة عوضا عنه ، وفي كل مرة ، كنت أفاجأ بالواحدة منهن ، وهي تبكي من ظلمه وقسوته لها وتقسم على أنه كان يسيء الظن بها ، وأن لاأساس من الصحة لما كان يقول في حقها !
أثار هذا فعلا استغرابي ! كيف وصل صديقي إلى هذه الحالة النفسية ؟ كيف أصبح ينعت الفتيات بالخائنات ، دون حجة أو دليل ؟ نعم ، هذا صحيح للأسف ، وليس من قبيل الصدف أن أسمع نفس الكلام من سناء مثلا ، أو إيمان ، أو مريم ، أو أخريات ! كان يرى كل من حوله خائنا.
وتمضي الأيام ، ويكشف كل يوم صديقي عما يخالج دواخله من حقد وغل تجاه الفتيات اللواتي لايتردد في نعتهن بالخائنات.
ذات مرة ، تعرف إلى إحدى الفتيات ، وبعد يومين أو ثلاثة ، قال لها بأنها لن تكون خير ممن سبقوها ، وأنها حتما ستخونه يوما ما. عارضته في الكلام ، وقالت له بأن هذا غير صحيح ، لكنه تشبت برأيه. تشبتت هي الأخرى كذلك برأيها ، وقالت له بأن الخيانة التي يتحدث عنها لا توجد إلا في خياله. كانت فتاة ذات شخصية قوية ، وكانت تعرف الشيء الكثير عن علاقاته السابقة بالفتيات. تعالت أصواتهما ، وتجمهر التلاميذ حولهما - كان ذلك في ساحة المدرسة ، أثناء فترة الإستراحة - وفي لحظة ، استفحل الأمر واضطرم الشر بينهما ، فقالت له " أنت مريض ، ويجب عليك أن ترى طبيبا نفسانيا ليعالجك ! "
ثارت نفسه واستطار غضبه ، ولم يكن يدري ماذا يفعل. أراد أن يصفعها ، لكنها قاومت ودفعته بكلتا يديها ، فأفقدته توازنه. تركها وانصرف ، وهو يلعن الدنيا وما فيها ، ويعد بدبح كل النساء لأنه يراهن كلهن خائنات ! لحقت به لأهدأ من روعه ، لكنه لم يأبه لوجودي واسترسل في الكلام ، وهو لايدري ما يقول ، ككل مرة يكون فيها تحت تأثير الغصب. هاهو ينطق بعد فترة بكلام غريب جدا ؛ كلام أذهلني فعلا ! قال ، وبصريح العبارة بأنه سيدبح كل النساء ، بما فيهن أمه !
ياإلاهي ، ماذا جرى لصديقي ؟ أمه !!
عدنا إلى الأقسام ، لكن صديقي غادر المؤسسة وهو يردد بأعلى صوته " كلهن خائنات . . كلهن خائنات . . "
ويأتي المساء . . ويشهد الحي الذي نقطن به كارثة غير مسبوقة . . ياللهول ! لقد وصل صديقي إلى قمة الغضب والإنفعال . . لقد فقد توازنه ، وتغلب الأنا عنده عن الأنا الأعلى، ففقد السيطرة على كل أفعاله . . هاهو الآن يدرم النار في منزلهم حيث كانت توجد أمه وأخواته ، ثم يرمي بنفسه من الطابق الثاني ، بغية وضع حد لحياته التي لم يصبح لها أدنى معنى عنده.
أصيب صديقي بجرح غائر في رأسه ، وكسر على مستوى العنق نقل على إثرهما إلى المستشفى. مرت ثلاثة أيام ولم بستفق من غيبوبته. كان يجب أن ننتظر اليوم الخامس أو السادس لنراه يفتح عينيه ، وينظر من حوله في هدوء تام. كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. طلب مني أن أدنو منه ، ثم قال بصوت خافت جدا " ماذا حصل لأمي ؟ " لم أرد أن أجبه، لكنه ألح علي فقلت له بأنها ترقد هي أيضا بالمستشفى ، وأن النيران قد أكلت كل وجهها. ابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول " الحمد لله ! لقد انتقمت منها لشرفي . . "
طلبت منه أن يصمت ، وألا يتكلم عن أمه على هذا النحو ، فقال لي ، وقد غمرت الدموع عينيه " أنت لاتعلم شيئا ياصديقي . . هذه المرأة دمرت حياتي . . "
هاهو يغمى عليه من جديد. كان يوجد بين الحياة والموت.
عدت في المساء لأراه. كان يجد صعوبة في الكلام ، لكنه كان مصرا ، رغم تعليمات الطبيب على أن يتكلم.
- كنت أشعر وكأن خنجرا مسموما قد نفد إلى أحشاءي وأصاب روح الشرف في نفسي ، وأنا أرى أمي في أحضان جارنا ، دون أن تعير أي اهتمام لوجودي . .
- أنت لا تدري ما تقول ، ومن الضروري ان تتوقف عن الكلام.
- لم أكن قد تجاوزت بعد السادسة من عمري . .
هاهو يغمى عليه من جديد ، لكن هذه المرة . .
الله أكبر . . الله اكبر . . إنا لله وإنا إليه راجعون. حقيقة الأسباب متعددة ، لكن الموت واحد.
لقد مات صديقي . . اه ، مات المسكين . . مات وقلبه يكاد ينفجر من الغيض والحزن والألم . . مات وهو يحمل هما من أكبر هموم هذه الدنيا.
سأبكيك كثيرا ياصديقي . . نعم كثيرا كثيرا . . ولن أنساك
ماحييت.
...........................................
مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
Mostafa Dahour
الدار البيضاء.
الدار البيضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق