بين الأمل والضياع
كان الرجل يغط في النوم ، لكنه كان من حين لآخر يتقلب في فراشه ، وكأني به يئن من الألم . بقي على هذه الحال لمدة طويلة ، وفجأة استيقظ من النوم مذعورا وهو يقول " أعود بالله من الشيطان الرجيم ! "
ذهب إلى المطبخ وفتح الثلاجة وتناول قنينة ماء ، ثم شرب حتى ارتوى ؛ بعد ذلك ذهب إلى شرفة المنزل وأشعل سيجارة ليدخنها في هدوء تام . رفع بعد ذلك عينيه إلى السماء وهو يقول في قرارة نفسه " هذه رؤيا وليس حلما عاديا !"
كان يعيش وحده ، بعد أن طلق زوجته وتحمل نفقة ابنته ذات السبع أو الثمان سنوات ؛ لكن الشيء الذي كان ينخر قلبه ويزلزل كل كيانه حتى يكاد يفتك به كان يتمثل في كونه أنه لم يرد ، بل لم يقدر أن يعترف بابن كان قد أنجبه منذ سبعة عشر سنة مضت من امرأة لم يكن يربطه بها أي عقد زواج ؛ امرأة من " إياهم " كما يقال ، كان قد تعرف عليها بإحدى حانات الدار البيضاء ليلا .
" أنت عاهرة ، ومن أدراني أن هذا الإبن هو ابني فعلا !"
كانت هذه الجملة تتردد دائما على لسانه ، كلما جاءت المرأة تطلب منه أن يتزوجها ويعترف بابنه ؛ وكانت هي تقول له في كل مرة " أقسم بالله العظيم أن هذا الإبن إبنك ، كما أقسم أنني لم أعاشر رجلا آخر منذ أن عرفتك !"
كبر الإبن وأصبح عمره يناهز السابعة عشرة ؛ كان يدرس بإحدى الثانويات التأهيلية ، وكانت أمه تشتري له أحسن الثياب وتعطيه مصروفه اليومي . لقد تابت عما كانت تفعله وأصبحت امرأة عادية ، تبيع الخضر في رأس الدرب لتعيش هي وابنها . كان الكل يحترمها ويقدر مجهوداتها ؛ أما عن الإبن ، فكانت المدرسة تتكفل في كل سنة بمنحه المقررات الدراسية ، كونه يتيم الأب ، وأمه امرأة فقيرة .
ذات يوم ، قررت المرأة أن تطلع ابنها على حقيقة الأمر ، هو الذي يعرف فقط أن أباه كان قد توفي في حادثة سير ، لما لم يكن هو قد تجاوز سن الثانية من عمره .
كانت حقيقة مرة ، مؤلمة بعثرت كل أوراق الإبن وحطمت كل معناوياته . كان كلما ردد في قرارة نفسه " أنا ابن حرام !" ، أحس بالغثيان وكانت نبضات قلبه ترتفع ، وكان يشعر بأنه سيغمى عليه ! لم يعد ذلك التلميذ المجتهد والطموح ، بل أصبح يعيش فراغا قاتلا . كانت روحه تكاد تزهق منه كلما تذكر أنه ابن غير شرعي ، نجب عن علاقة غير شرعية ، من أم عاهرة وأب زان .
في أحد الأيام ، طلب الإبن من أمه أن تذله على مكان إقامة أبيه ، ففعلت وكلها أمل أن قلب الأب سيحن عندما يرى ابنه أمام عينيه وسيعترف به ، وربما أصبح الحال غير الحال ، وعقد عليها الرجل قران الزواج ، وأصبح لديها عائلة ورجل يعولها وينقدها من قسوة الحياة وشراستها . كان يوم أحد ، وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال . وصل الإبن إلى المنزل الذي يقيم به الأب ، وكان في الطابق الأول بإحدى العمارات ، فدق الباب مرة وأخرى وثالثة وقلبه يرتعش ، لكن لم يجبه أحد . لم ييأس وبقي يدق ويدق حتى سمع صوتا يقول له " انتظر ! " وبعد فترة وجيزة من الزمن ، فتح الباب . التقت أعين الإبن بأعين أبيه ، لكن دون أي شعور عاطفي أو شيئا من هذا القبيل من طرف الإبن.كان الرجل ثملا، وكانت رائحة الخمر تفوح من فمه وأنفه .
- من أنت ، وماذا تريد ؟
- أنا إبنك !
- ماذا ، ابني ؟! ههه . . أنا ليس لي أبناء في سنك !
- بل لك ! أنا إبنك،وهذا الشبه الصارخ بيننا يذل على أنك أبي!
- الشبه، أتدري ماتقول ياولد؟ ألم تعلم أن الله يخلق من الشبه أربعين ؟
- لكني أنا إبنك ، وأمي هي تلك المرأة التي كنت تعاشرها قبل سبع عشرة سنة ، والتي كنت قد تعرفت عليها بإحدى الحانات . .
- آه ، ابن عاهرة إذن ! أنصحك أن تبحث عن شبهك في مكان آخر ! فهناك البقال ، والجزار ، والإسكافي . . وهناك الحانات الليلية قرب المارشي سنطرال ، أو قرب ألفا 55 . .
- اصمت ، فأنت رجل غير محترم ، ولن أكون أبدا فخورا بأن تكون أبي !
مر على هذا الحدث أكثر من شهر . كان الرجل يعرف أين يسكن ابنه وتلك المرأة التي أنجبته ، لكنه لم يعر الأمر اهتماما بالغا ، ولم يخطر على باله ولو لمرة واحدة أن يذهب لزيارتهما ، أو على الأقل للتعرف على هذا الإبن الذي جاء في يوم من الأيام يطلب نسبه .
وجاء هذا الحلم الذي يسميه الرجل رؤيا ! رأى في المنام ابنه وهو يقول له : " لن أسامحك أبدا ، وغدا يوم القيامة سأنال منك ، وستدخل النار بسببي ."
لم يعد الرجل في تلك الليلة إلى الفراش ، وانتظر حتى الصباح ليذهب إلى منزل تلك المرأة من أجل أن يرى ابنه . لكن الوقت كان قد فات ! لقد أخبرته المرأة وهي تبكي بمرارة أن ابنه قد فارق الحياة ، بعد أن رمى بنفسه من فوق العمارة التي يقطنون بها.
- مات !!؟؟
كانت آخر كلمة ينطق بها الرجل ، لأنه سقط بعدها من طوله ، وكانت روحه قد فارقت جسده .
أما الغريب في الأمر هو أن القبر الذي دفن فيه الرجل كان يجاور القبر الذي دفن فيه ابنه ، بحيث لم يكن يوجد بينهما أي قبر آخر !
مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء.